تسعى تركيا إلى حجز مقعد لها بين الجهات الفاعلة الإقليمية من خلال إنشاء علاقات قوية بالبنية الأمنية الدولية، ومن أجل تحقيق الهدف المنشود لم تبخل تركيا في استعمال القوة الخشنة في العديد من البقع الجغرافية وعلى المستويين الاستخباراتي والعسكري، من خلال غض النظر عن نشاط العديد من التنظيمات الراديكالية من سوريا إلى ليبيا انطلاقاً من أراضيها، وفقا لمراقبين.أعطى هذا التوجه القيادة التركية الثقة للعمل بشكل أكثر استقلالية في العلاقات الدولية، وفي الوقت نفسه، الدافع للبحث عن تحالفات مرنة، بما في ذلك روسيا، لتقليل الاعتماد على الغرب أو تنويع الاعتماد. واليوم، عادت علاقة تركيا مع بعض الجماعات المتشددة إلى الواجهة من جديد، بعد أن تبين أن اثنين من المسلحين الذين هاجموا مركز كروكوس في العاصمة الروسية موسكو، كانا قد سافرا سابقا من روسيا إلى تركيا ثم عادا إلى العاصمة الروسية. وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها تركيا لحوادث كهذه، حيث تأثرت طوال الأعوام الماضية بأعمال تنظيم "داعش" والجماعات المنضوية تحته، خصوصا وأنها تمتلك حدودا مشتركة مع المناطق التي ينشط فيها (سوريا والعراق) من جهة، وقدمت بعض التسهيلات له عبر وسائل متعددة من جهة ثانية. تركيا سهلت الطريق لتنظيم "داعش"؟ تعتبر أنقرة العدو الأساسي لها اليوم هو "حزب العمالي الكردستاني" والجماعات أو الأحزاب التابعة والمؤيدة له، وبعد الحرب السورية وتأسيس الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا التي ترى فيها تهديدا قوميا لها، يتهم معارضو الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بأنه عمل على تقديم تسهيلات لتنظيم "داعش" بشكل غير علني وغير مباشر، وذلك لإضعاف الأكراد. ووفقا لهذه الرواية وبالإضافة لعدد من التقارير، سمحت تركيا بمرور أكثر من 25 ألف مقاتل أجنبي عبر أراضيها إلى سوريا والعراق.لكن بعد النصف الثاني من عام 2022، ولنفي هذه التهم، بدأت السياسة التركية تجاه "داعش" تتغير، تزامن ذلك مع "حملات التطبيع" التي قامت فيها تركيا مع دول عدة بالمنطقة كانت لها خصما في السابق، بالإضافة إلى مخاوف تركيا من انتشار عناصر ما سمي بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" والتي تم القضاء عليها عام 2017، على أراضيها في ظل تحوّل التنظيم إلى خلايا نائمة في سوريا أو العراق. لكن أهم حدث كان ضمن هذه السياسة مع "داعش" هو إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في 30 أبريل 2023، مقتل قائد التنظيم حينها أبو الحسين القرشي في سوريا خلال عملية نفذتها الاستخبارات التركية، وقال إردوغان حينها خلال مقابلة متلفزة "إن هناك تطورا يظهر معركتنا الصارمة ضد التنظيمات الإرهابية". كذلك، لاحقت السلطات التركية كل من تشتبه بصلته بتنظيم "داعش"، إذ شنت في الأشهر الماضية حملات عدة بهذا الغرض. وبحسب الأرقام الرسمية التركية، فقد ألحق جهاز الاستخبارات التركي خسائر كبيرة بتنظيم "داعش" خلال عام 2023، وذلك بالقبض على 426 من عناصره عبر 122 عملية أمنية داخل البلاد وخارجها.تعامل بحكم "الأمر الواقع" وفي هذا السياق، يقول المختص في الشؤون الإرهابية أحمد سلطان في حديث إلى "المشهد" إن "تركيا ملاصقة للعراق وسوريا، ما يجعلها ممرا للجاهدين الذين تواجدوا في البلدين في وقت سابق، وكذلك كانت مقرا لشبكات الدعم اللوجيستي التي نقلت المتطرفين إلى العراق وسوريا". ويضيف سلطان: "لا يوجد أي دعم أو تسهيل رسمي لـ"داعش" من قبل السلطات التركية، لكن التنظيم يستغل تركيا بسبب قربها من سوريا والعراق، وبسبب وجود جاليات من دول عدة، يستطيع التغلغل فيها لتسهيل عمله". وبرأي سلطان فـ"تركيا تستخدم ورقة هذه الجماعات وفقا لمصالحها الذاتية، ولديها رؤية للتعامل مع هذه الجماعات، إذ كانت في مرحلة من المراحل تغض الطرف عن المسلحين القادمين إلى سوريا عبر أراضيها، وتتعامل مع التنظيم بشكل غير مباشر، بل عبر وسطاء، واستفادت من ذلك إلى حد كبير". على النقيض من ذلك، يبيّن المختص في الشأن التركي محمود علوش في تصريح إلى "المشهد" أن "تركيا بحكم ارتباطها العرقي والديني مع دول آسيا الوسطى هي وجهة للكثير من سكان دول آسيا الوسطى للعمل والإقامة فيها، وهذا يسهل على تنظيمات متطرفة كداعش لتجنيد المقاتلين والأتباع بين هؤلاء الشبان إما لشن اعتداءات داخل تركيا أو التخطيط لاعتداءات في دول أخرى". ويشرح علوش أن "تركيا من أكثر الدول التي تعرضت لهجمات إرهابية من قبل تنظيم داعش، كما أنها تكافح التنظيم بقوة وكانت عضوا فعالا في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب. لا تتهاون أنقرة مع أي نشاط من شأنه أن يشكل تهديدا لأمنها وأمن أي دولة". تركيا تتعاون مع موسكو ومع انتشار أنباء حول مرور منفذي هجمات موسكو من تركيا، رأت أنقرة نفسها بأنها معنية، ضمن سياق المرونة في العلاقات مع روسيا، بإظهار الدعم والمساندة لروسيا، ليس من باب رد التهم فحسب، بل أيضاً رداً لجميل وقوف بوتين استخباراتياً ودبلوماسياً إلى جانب الرئيس التركي في حادثة الانقلاب الفاشل أيضاً في عام 2016. وفي إطار هذا التعاون، قال وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، الثلاثاء، إن السلطات قبضت على 147 شخصا للاشتباه في صلاتهم بتنظيم "داعش"، في عمليات على مستوى البلاد. وكتب في منشور على منصة "إكس"، أن الشرطة ألقت القبض على المشتبه بهم في عمليات متزامنة في 30 إقليما. وأضاف، أنه تبين أن المشتبه بهم كانوا ينشطون داخل تنظيم داعش، وانخرطوا في صراع مسلح ضمن التنظيم وساعدوا في تمويله. كذلك نقلت صحيفة "حريت" عن مصدر أن 2 من الإرهابيين الـ4 الذين هاجموا مركز كروكوس، زارا تركيا، لكن في ذلك الوقت لم تكن هناك أي تحذيرات من موسكو بشأنهما. ولفتت الصحيفة إلى أن "أنقرة درست بعناية جميع القضايا المتعلقة بهذين الشخصين وأبلغت موسكو بكل شيء تعلم به". ووفقا للصحيفة، يتوقع الجانب التركي من روسيا أن تزيد من تبادل المعلومات حول أنشطة الجماعة الإرهابية "داعش" وفرعها "خراسان"، لأنهما يشكلان تهديدا متساويا لتركيا. ولا يعتقد سلطان أن تحمل موسكو جزءا من مسؤولية التفجير لتركيا، "ولن تؤثر على العلاقات بينهما، لأن أنقرة لم تتدخل في توجيه أو تخطيط هذا الهجوم، وإنما تنظيم داعش". ويرى سلطان أنه "لابد من القول إن تركيا كانت مقرا لما يسمى بمكتب الفاروق، وهو أحد المكاتب التي تقود تنظيم "داعش" وتتولى تنسيق العمليات في الخارج، وهذا المكتب نقلت صلاحياته بعد حملة أمنية من السلطات التركية، إلى مكتب الأرض المباركة أو مكتب "الشام"، وبقي يعمل في الدعم اللوجيستي أو في مسائل تجنيد بعض الخلايا". وأشار إلى أن ما حصل "هو نتيجة طبيعية لنشاط تنظيم "داعش" الذي يملك شبكات وخلايا داخل تركيا". فيما يشير علوش إلى أن "تركيا وروسيا على تعاون وثيق في مكافحة الإرهاب، وهناك تبادل للمعلومات بين البلدين بخصوص منفذي هجوم موسكو وطبيعة وجودهم في تركيا قبل الهجوم. والروس يقدرون دور تركيا في مكافحة التنظيم الإرهابي".(المشهد)