تحاول إسرائيل بكل قدراتها وأذرعها التنفيذية من خلال جماعات المستوطنين المتطرفين، الاستيلاء على الحيّ الأرمنيّ بالقوة.. الحي الذي ارتبط دومًا بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حيث يتعرض البطاركة الأرمن لضغوط هائلة لبيع أملاك الحي، لكنهم لم يرضخوا ولم يستسلموا.منذ مدة تشتكي الكنائس المحلية في القدس من ارتفاع حادّ في وتيرة الاعتداءات اليمينية الإسرائيلية على مواطنيها وممتلكاتها بشكل ملحوظ ومتزايد، حيث يتعرض الأرمن كبقيّة المسيحيين بالقدس لمضايقات من قبل الشرطة الإسرائيلية وانتهاكات على يد جماعات المستوطنين والتي كان آخرها محاولات لإزالة الجدران في مرآب المركبات الخاص في بطريركية الأرمن الأرثوذكس، وخط شعارات عنصرية على الجدران والأديرة، وتحطيم لمحتويات بعض الكنائس، وشتم وضرب رجال الدين والراهبات، والتعرض لأهالي الحيّ بالترهيب والترغيب.منسق مكتب مجلس الكنائس العالميّ بالقدس يوسف ضاهر يقول لمنصة "المشهد": "هذا يأتي في إطار السياسة الإسرائيلية العامة ضدّ الفلسطينيّين على اختلاف أديانهم، والاعتداءات ازدادت بشكل فظيع مع وصول الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى الحكم، ما جعل الحياة أسوأ بالنسبة للمسيحيّين في مسقط رأس الديانة المسيحية، فالمجتمع المسيحيّ يتعرض لهجوم متنامٍ، بفعل وجود المناخ السياسيّ الثقافيّ الإسرائيليّ الذي يتسامح مع هذه الأفعال، ويُشعر المعتدين بأنهم محميون، لذلك يتمادون حدّ إهانة البشر وثقافاتهم وأديانهم، واستئصال وطرد وتهجير".ويشير ضاهر إلى أنّ "هناك حركات إسرائيلية أبرزها عطيرت كوهنيم، تحاول استغلال الحرب الإسرائيلية على غزة، للاستيلاء على ما أمكن من أملاك الكنائس في القدس تحت ترهيب السلاح بحماية الشرطة الإسرائيلية".استئصال الهوية المسيحيةوتعود قصة الأطماع الإسرائيلية في الحي الأرمنيّ منذ وقوع القدس في قبضة إسرائيل وفق الباحث والمؤرخ جورج سحار، الذي قال لـ"المشهد": "بكلّ الأساليب الخبيثة والملتوية والاستيطانية، تحاول إسرائيل الوصول للحيّ الأرمنيّ للاستيلاء عليه، نظرًا لموقعه الاستراتيجيّ وقربه من باب الخليل المؤدي إلى حارات الحيّ المسيحي بالقدس، وكذلك بقيد القدس العتيقة، وبالتالي ما يجري الآن في منطقة باب الجديد من إضافة الطابع اليهوديّ عليه، خصوصًا في هذه المنطقة المسيحية والتي تحتوي على المدارس والكنائس والممتلكات المسيحية والبيوت، يهدف إلى إيجاد ربط جغرافيّ بين باب الجديد وحائط البُراق وباب الخليل لصالح المستوطنين".ويؤكد سَحار "استهداف الأرمن غير منفصل عن استهداف ممتلكات الكنيسة الأرثوذكسية في باب الجديد، مثل فنادق الإمبريال والبيترا، وذلك بهدف الاستحواذ على المنطقة بأكملها، وبالتالي هناك خطر داهم على كل ما هو عربيّ إسلاميّ مسيحيّ بالمدينة، إسرائيل تريد الأرض وما عليها بملامح يهودية خالصة، مع مسح وطرد البقية". وأوضح سَحار، "إسرائيل تعمل تدريجيًا للقضاء على الوجود المسيحيّ في القدس، الذين كانوا يشكلون 10% من مجموع السكان وأصبحوا الآن 2% فقط، وعمليات التضييق الجارية على قدم وساق بالحيّ الأرمني، هي مخطط من منظومة إسرائيلية لسحق الحيّ والممتلكات المسيحية في محيطه".تهديد وجود الأرمن بالقدس أصدر رؤساء الكنائس المسيحية في القدس نداءً مشتركًا، محذّرين من تبعات صفقة مثيرة للجدل لتأجير قطعة أرض تابعة للكنيسة الأرمنية لمطورين يرغبون في بناء فندق فاخر في الموقع، صفقة ستؤثر على هوية ووجود الطائفة المستمر في المدينة منذ قرون طويلة، لذلك يخوض الأرمن حراكًا شعبيًا ضدّ السلطات الإسرائيلية التي تسعى للاستيلاء على جزء من أملاك الحي، تمهيدًا لوضع يدها عليه، حيث يعتصم الأهالي والناشطون في موقف السيارات التابع للبطريركية الأرمنية، الرافضون لسيطرة إسرائيل على المكان. ووفق الناشط الأرمني هاغوب دجيرنازيان الذي تحدث لمنصة "المشهد"، فإنّ "هذا الاتفاق وقّعه رئيس الكنيسة الأرمنية بالقدس في يوليو 2021، مع رجل أعمال أسترالي، وعندما بدأ المساحون بالعمل في موقف السيارات (بستان الأرمن أو حديقة البقر) قام رئيس الكنيسة بإبلاغ الأهالي بأنه تعرّض لتضليل وبدأ فورًا إجراءات قانونية لإلغاء العقد، ورغم الطعن أمام القضاء، وصلت الجرافات الإسرائيلية وهدمت جزءًا من موقف السيارات، برفقة المستوطنين المسلحين، لكننا تصدّينا لهم بأجسادنا لوقف هذا الإجراء التعسّفي بحقنا".ويتابع دجيرنازيان "هذه الاعتداءات والمضايقات مقصودة وتسعى لاستئصالنا من الحيّ الأرمنيّ لبسط السيطرة الإسرائيلية عليه، فهو يتمتع بموقع استراتيجيّ وكنوز تاريخية، نحن أبناء هذا الحي، وهذه الأرض، ولن نهجر ولن نخرج أبدًا من ديارنا". ماذا نعرف عن حيّ الأرمن بالقدس؟ حيّ الأرمن "مار يعقوب" أصغر أحياء القدس العتيقة ويمثل 17% منها، يقع جنوب غربي البلدة القديمة، ومساحته 300 دونم أي ما يعادل سدس مساحة البلدة، ويتكون من مجموعة من البيوت إضافة إلى دير الأرمن المكون من حيّز للعبادة ومدرسة ومتحف وعيادة طبية، ويُعتبر الحيّ من أقدم الأحياء في مدينة القدس، ويتبع سكانه الديانة المسيحية الأرثوذكسية، وتملك البطريركية ثاني أضخم مكتبة أرمنية للمخطوطات في العالم، وأقدم مطبعة في القدس أُسست عام 1833. ويوجد في قلب حي الأرمن الذي يسكنه قرابة ألف شخص، كاتدرائية سانت جيمس التي يعود تاريخها إلى عام 420 ميلادي، وهي مزينة بزخارف ومصابيح ثمينة ويشتهر رهبانها بوضع القلنسوة السوداء، والأرمن موجودون في فلسطين منذ مئات السنين، وقد أعطاهم الخليفة عمر بن الخطاب الحماية وغيرهم من المسيحيّين، ونُقش مرسوم الخليفة عمر بن الخطاب الذي عدّد فيه حقوق وامتيازات الكنيسة الأرمنية، حرصًا على حمايتها وسلامتها، موجود على مدخل دير الأرمن حتى يومنا هذا. تاريخيًا واقتصاديًا وحتى يومنا هذا، تميز الأرمن بذكائهم الصناعيّ والحرفي، فهم أول من جلب الطباعة لمدينة القدس بتأسيسهم مطبعة داخل الدير عام 1833، وتعمل الآن بمقر ومعدات حديثة، كما أسسوا أول مصنع للسيراميك في عهد الاحتلال البريطاني بالقدس، وهم أول من أدخلوا مهنة التصوير الفوتوغرافيّ للقدس، ويُتقنون التصميم والخياطة وصياغة المجوهرات.(المشهد)