منعطف جديد قد تشهده ما يُعرف بـ"قضيّة الغرفة السوداء" في تونس، مع دخول ملفها أروقة المحاكم ومباشرة القضاء النظر فيها بعد سنوات من التعطيل، في وقت تقول السلطات إنّها تعمل جاهدة على تطهير مؤسساتها من الاختراقات واستعادة سيادتها الكاملة عليها.ووسط هذا الأسبوع، شرعت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بأريانة بالعاصمة تونس، في النظر في القضية المعروفة إعلاميًا "بالغرفة السوداء" بوزارة الداخلية، التي تم اكتشافها قبل أعوام وتورّط فيها كوادر أمنية، في حين تلاحَق قيادات "الإخوان" من أجلها.ومنطلق الأبحاث في قضية الحال، كان على إثر تولّي قاضي التحقيق بمحكمة مكافحة الإرهاب، حجز مجموعة من الوثائق داخل أحد مكاتب وزارة الداخلية منذ 4 أعوام، بناءً على تقرير تقدّم به محامو السياسيّين المعروفَين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي، اللذين وقع اغتيالهما عام 2013، أكدوا فيه وجود "غرفة مظلمة" في وزارة الداخلية التونسية، تحتوي على وثائق على صلة بعمليّتَي الاغتيال، وتؤكد توّرط كوادر بالوزارة وعدد من قيادات حركة النهضة فيها.ومع تعّهد القضاء بالملف، تم إصدار بطاقات إيداع بالسجن في حق عدد من الكوادر الأمنية السابقة، من بينهم أطر عُليا فيما يلاحق آخرون بحالة سراح.النهضة في قفص الاتّهام وتوجّه هيئة الدفاع عن البراهمي وبلعيد أصابع الاتّهام لحركة النهضة بالوقوف وراء عمليتَي اغتيال السياسيّين، وكانا من أشد المعارضين لها، فيما ترفض الحركة هذه الاتهامات، مؤكدة أنّ الجناة الحقيقيّين تم الكشف عنهم وتقديمهم للمحاكمة، وأنّ هذه الاتهامات "هي اتهامات سياسية تهدف لمحاربتها وإقصائها من المشهد السياسي". وكانت تونس قد عاشت على وقع عدد من العمليات الإرهابية وعمليات الاغتيال في عامي 2013 و2014، بعد وصول "الإخوان" للحكم، واغتيل المحامي بلعيد بالرصاص في 6 فبراير 2013 أمام منزله بحيّ المنزه شمال العاصمة، ما شكّل صدمة لدى التونسيّين، وخلق حينها أزمة سياسية حادة أدت لتقديم رئيس الوزراء حمادي الجبالي استقالته حينها، فيما اغتيل النائب المعارض محمد البراهمي رئيس حزب التيار الشعبيّ في 25 يوليو 2013، وتبنّى إرهابيون على صلة بتنظيم "داعش" العمليّتين. وقالت السلطات التونسية في بداية عام 2014، إنها قتلت القاتل المفترض كمال القضقاضي وألقت القبض على عدد آخر من المتورّطين في هذه العمليات. ملف "الغرفة السوداء" ويرى مراقبون أنّ ملف "الغرفة السوداء" يتّجه نحو نقطة نهاية تكشف المستور عمّا يمكن أن يكون "الإخوان" قد ارتكبوه في تونس طيلة العشرية. وتقول النائبة بالبرلمان فاطمة المسدي، إنّ "أوراق الغرفة السوداء والجهاز السري وشبكات التسفير لـ"إخوان" تونس، بدأت تتساقط، خصوصًا بعد أن تحرر القضاء من القيود التي كانت تكبّله، وبعد أن كشفت التحقيقات عن خيوط اللعبة التي استطاع من خلالها التنظيم اختراق الدولة".وتضيف في تصريح لمنصّة "المشهد"، أنه "من المهمّ اليوم أن نعرف الحقيقة كاملة، وأن نحدّد المسؤوليات حتى تستعيد بلادنا عافيتها أمنيًا وسياسيًا". وسبق للمسدي أن تقدمت بشكاية متعلقة بشبكات التسفير لبؤر التوتر، باشر القضاء النظر فيها وأوقف على هامشها العشرات من السياسيّين والموظفين الأمنيّين. الرئيس التونسيّ قيس سعيّد انتقد مرات عدة "تباطؤ" التحقيق القضائيّ في القضيّتين. وكانت وزارة العدل التونسية قد أعلنت تكوين لجنة خاصة مكلفة بمتابعة ملف الاغتيال، ومحاسبة كل من تورّط في تعطيل سير الملفات، وسعى في طمس الأدلة والتأثير على المسار. ويقول الناطق الرسميّ باسم حزب التيار الشعبيّ محسن النابتي، إنّ "الإسلاميّين" الذين أحكموا قبضتهم على القضاء في تلك الفترة، كانوا وراء ذلك "من أجل طمس الحقيقة"، ويقرّ بأنّ إزاحتهم من الحكم بعد التدابير الاستثنائية لعام 2021، ساهمت في تحرير القضاء وتحريك الملف. ويتابع "نشعر وكأنّ القضاء بدأ للتوّ النظر في هذه الملفات". ويضيف أنّ المسار القضائيّ تعثّر طيلة السنوات الماضية، في كشف حقيقة الاغتيال، بسبب ما اعتبره "تدخلاتٍ من قبل أطراف سياسية عملت على تحريف المسار حماية للجناة على مدى هذه السنوات، ووظفت عديد الأجهزة الموازية التي عمّقت العمل على طمس الحقيقة، بسبب امتدادات هذه الشبكة الخطيرة خارجيًا، وعلاقتها بما حدث في المنطقة ككل".استعادة سيادة الدولة لا تقف أهمية كشف حقيقة "الغرفة السوداء" في نظر المراقبين عند معرفة حقيقة ما حدث في تلك الفترة، وكشف حقيقة من دبّر وخطّط وحرّض، أو" من ضغط على الزناد" كما تقول المسدي، بل إنّ هذا الملف وفق المراقبين على صلة وثيقة بباقي الملفات الأخرى مثل شبكات التسفير والجهاز السري، وكل ما له علاقة بملف الإرهاب والأمن القوميّ وفق تقدير النابتي. ويعتبر المصدر ذاته أنّ هذه الملفات "من صميم ملفات الأمن القومي، واختراق الدولة والاعتداء بالقوة على سيادتها، ناهيك على اختراق مؤسساتها من الداخل"، مشيرًا إلى أن:لا دولة لها سيادة تسمح للمليشيات باختراق مؤسساتها، لذلك فإنه من المهم كشف المورطين وخصوصًا كشف من توّرط معهم من داخل الدولة حفظًا للأمن القوميّ للبلاد.التقدم في هذه الملفات هو رسالة للخارج، مفادها أنه لم يعد مسموحًا أن تكون تونس دولة مخترَقة من أيّ طرف أو أيّ جهاز، نظرًا لامتداداتها وارتباطاتها الخارجية بشكل مباشر وغير مباشر، ستفهم جهات كثيرة أنّ الدولة التونسية لم تعد دولة مخترَقة ولا أحد داخليًا أو خارجيًا يمكن أن يعتدي على سيادتها.وتشاطر المسدي النابتي رأيه بخصوص تطهير مؤسسات الدولة وخصوصًا وزارة الداخلية من الاختراقات، بكشف حقيقة من تورّط في ملف هذه الغرفة، موضحة في السياق أنّ "الغرفة السوداء تحتوي على وثائق اختراق لوزارة الداخلية ولأمن البلاد، وكشف حقيقتها يعني التخلص من الأمن الموازي الذي عرّض أمن البلاد للخطر". في الوقت ذاته، تشدد المسدي على أهمية هذا المسار سياسيًا، معتبرة أنه قد يكون خطوة نحو التخلص نهائيًا من "الإخوان"، مضيفة "إذا تم إثبات توّرط حركة النهضة، فإنّ ذلك يعني حلّها وتصنيفها تنظيمًا إرهابيًا ومنعها في تونس، وهو ما ستكون له تداعيات كبيرة حتّى خارجها". (المشهد)