مع استمرار التوغل الأوكراني داخل الأراضي الروسية، ولجوء كييف إلى المزيد من وسائل الضغط على موسكو، أعلن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي أنّ بلاده لن تجدد اتفاقية نقل الغاز مع روسيا، والتي تنتهي أواخر العام الحالي. وقال زيلينسكي "لن يجدد أحد الاتفاق مع روسيا (بشأن نقل الغاز)". وكانت كييف ألمحت إلى هذه الخطوة من قبل، حين قال وزير الطاقة الأوكراني غيرمان غالوشينكو في مارس الماضي بأن بلاده لا تخطط لتجديد عقد نقل الغاز مع شركة "غازبروم" الروسية العملاقة. الغاز الروسي يغذي أوروبا يعتبر الغاز أهم نقطة ضعف في العلاقات الأوربية مع روسيا. وعلى الرغم من القيود المفروضة على التعامل التجاري في مجال الطاقة بين الخصمين، إلا أن العديد من الدول لا تزال ترى في الغاز الروسي سلعة غير قابلة للتعويض، ما يعقّد من تبعات القرار الأوكراني على صناعاتها بشكل خاص. فإيطاليا مثلًا كانت تعتمد قبل عام 2022 بشكل كبير على واردات الغاز الروسي، والتي شكلت ما يصل إلى 40% من احتياجاتها من الطاقة، فيما زادت النمسا وارداتها من الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا من 80% إلى 98% خلال العامين الماضيين. كما تمثّل الواردات الروسية الآن 60% من استهلاك الغاز في اليونان. حيث استعاضت عن صادرات الغاز عبر خط أنابيب بحر البلطيق "نورد ستريم 1" وخط أنابيب "يامال" البولندي بالغاز الطبيعي المسال المنقول عن طريق السفن، والتي ارتفعت بنحو 40% منذ سبتمبر 2022. وسعت أوروبا إلى تقليل اعتمادها على الغاز الروسي نتيجة للتوترات السياسية والعقوبات المفروضة على روسيا. على الرغم من ذلك، لا تزال بعض دول أوروبا الشرقية والوسطى تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي الذي يصل إليها عبر خطوط الأنابيب المارة من تركيا وأوكرانيا. خطوط الأنابيب الرئيسية التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا تشمل "تورك ستريم" الذي يعبر البحر الأسود إلى تركيا ثم يتفرع إلى بلغاريا، صربيا، والمجر، وكذلك الخط الذي يمر عبر أوكرانيا إلى سلوفاكيا. هذه الخطوط توفر حوالي 14 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً لكل منها. ويقول الأستاذ المساعد في الأكاديمية الرئاسية الروسية ومدير مركز خبراء رياليست د. عمرو الديب في حديثه إلى منصة "المشهد" إن "مسألة الحديث عن إيقاف ضخ الغاز عبر الأراضي الأوكراني والذي سينتهي عقده بنهاية العام الجاري لايزال مبكّراً، ويأتي في سياق الضغوط التفاوضية الأوكرانية والتي تتلقى خزينها سنويا أكثر من مليار و200 مليون دولار من جانب شركة غاز بروم". ويضيف الديب "إذا كانت أوكرانيا بالفعل جادة في نيتها المتمثلة في عدم تجديد عقدها مع غاز بروم فسيكون على السوق الأوروبية الضخمة أن تجد بديلاً آخراً لهذا الخط، والذي يمثّل شريان حياة للاقتصاديات الأوروبية الكبرى، وكذلك لأوكرانيا ذاتها، وهذا أمر مشكوك فيه في القريب العاجل"."غسيل" الغاز الروسي في سعيها للالتفاف على قرارها بشأن إيقاف استيراد الغاز الروسي، أبرمت رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين صفقات لاستيراد الغاز من أذربيجان، على الرغم من أن جزءًا كبيراً من خطوط نقله مملوكة لشركة "لوك أويل" الروسية للطاقة والمدرجة على قائمة العقوبات الأميركية. ولتلبية الطلب المتزايد من جانب الاتحاد الأوروبي على الغاز، أبرمت أذربيجان بدورها صفقة مع روسيا لزيادة صادراتها من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي مقابل استغلال الغاز الروسي الوارد لتلبية الطلب المحلي الأذربيجاني. في الوقت نفسه، أبرمت الدولتان العضوان في الاتحاد الأوروبي، رومانيا والمجر، صفقات غاز مع تركيا، التي تستورد أيضاً الغاز الروسي لتلبية احتياجات سوقها الداخلية، بالإضافة إلى تصديره للدول الأوربية. زادت دول الاتحاد الأوروبي استيرادها للغاز الطبيعي الروسي بحوالي 30% في مايو 2024 مقارنة بسبتمبر 2022، وفقًا لبيانات مجموعة أبحاث السوق "ICIS". وارتفعت حصة الغاز الطبيعي المسال الروسي في إجمالي واردات الغاز الطبيعي المسال للاتحاد الأوروبي من 11% في سبتمبر 2022 إلى ما يقرب من 20% حتى منتصف عام 2024. في العام الماضي كشف مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف (CREA) عن قيام دول بزيادة وارداتها من الطاقة الروسية بعد الحرب الأوكرانية وبيعها للدول التي فرضت عقوبات على روسيا، في عملية "غسيل" قانونية حسب رأي الخبراء نظراً لتغيّر المنشأ قبل البيع، مقابل تقويض سقف أسعار النفط الروسي. عملية "غسيل" الغاز الروسي منحت الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع وأستراليا إمكانية استيراد الوقود الأحفوري الروسي على شكل منتجات نفطية مكررة من دول ثالثة من خلال نقلها عبر سفن هذه الدول والتأمين عليها، بعد أن شملت العقوبات أيضاً عمليات النقل والتأمين والخطوات اللوجستية الأخرى.خسائر الطرفينإلى جانب الغاز، تجد مشتقات الطاقة الروسية طريقها إلى البلدان التي تحدد سقف أسعار لها في صورة الديزل ووقود الطائرات بشكل خاص، فيما يستمر المأزق الأوربي العالق بين تناقض أهداف السياسة الخارجية الخاصة بتقويض قدرات روسيا الاقتصادية، وأمن طاقتها التي قد تضر باقتصادها بشكل عام وصناعتها خصوصاً. تجاوزت واردات الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي في مايو 2024 مثيلتها من الولايات المتحدة، أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال للاتحاد، وذلك بسبب انقطاع التيار الكهربائي في منشأة تصدير أميركية مهمة، ومع ذلك، فإن المعضلة الروسية تكمن في عدم اتّصال حقول تزويد أوروبا بالغاز بعملاء آخرين، ولا بمرافق تسمح بتسييل هذا الغاز وبيعه كغاز طبيعي مسال. ورغم الرغبة الروسية في بيع المزيد من الغاز إلى الصين، فلا يوجد خط أنابيب يربط حقول الغاز هذه بالصين، كما أن الصين لم تظهر اهتماماً كبيراً لمشاريع مد خطوط لنقل الغاز. ويشرح خبير أمن الطاقة التركي أيدين سيزير في حديثه إلى منصّة "المشهد" أن "كمية الغاز التي تصل إلى أوروبا عبر أوكرانيا تبلغ 40 مليون متراً مكعباً يومياً، و14 مليار متراً مكعباً سنوياً، وسعر البيع اليوم في أوروبا هو 480 دولاراً/للمتر المكعب. أوكرانيا تفرض أيضاً رسوماً لنقل الغاز، وبالتالي فإن المبلغ الذي تحصل عليه روسيا هو 425 دولارللمتر المكعب". ويقول سيزير "باختصار ستخسر روسيا من 5-6 مليارات دولار من الدخل السنوي، وهذا المبلغ ليس بالكبير بالنسبة لموسكو". ووفق سيزير "تضغط الولايات المتحدة على أوكرانيا لإنهاء الاتفاق، وستكون دول أوروبا الوسطى الضحية الأولى، وبالتالي إما أن يجدوا غازاً مسالاً بتكلفة أكبر أو سيشترون الغاز الروسي مرة أخرى من الخط التركي 2، الذي يمر عبر تركيا". بالمقابل، عوّض ارتفاع أسعار الغاز عالمياً لروسيا عن الخسائر الناتجة عن تقييد استيراد الغاز ولو بشكل حزئي. لكن قد يشكّل الانخفاض المحتمل تحديات اقتصادية جديدة لروسيا، بالإضافة إلى العقوبات الغربية المفروضة عليها، ما يدفعها إلى إعادة تقييم علاقاتها التجارية والبحث عن أسواق بديلة لتعويض الخسائر المحتملة من التراجع في الصادرات إلى أوروبا. ويرى الديب أن "الأمر الذي سيكون على أوروبا الاستعداد لشراء الغاز الروسي المسال والذي سيكون مكلف اقتصاديا للغاية". مضيفا "بشكل عام العقد يمكن تمديده بنهاية هذا العام ولكن بعد أن تحصل أوكرانيا على مزايا اقتصادية من جانب كل من روسيا والاتحاد الأوروبي". ويختلف استخدام الغاز الطبيعي من دولة أوروبية إلى أخرى، وذلك لأسباب عدة منها الطقس، والاستخدام الصناعي والمنزلي، ومدى توفر أشكال الطاقة البديلة وتفضيلاتها. على سبيل المثال، يشكل الغاز أهمية كبيرة لتدفئة المنازل في المناخات الباردة في شمال أوروبا، في حين أن الاستثمارات الفرنسية الضخمة في الطاقة النووية تخفّض من اعتمادها على الغاز كمصدر لتوليد الطاقة. ينعكس هذا الاختلاف بشكل أكبر على سياسات استيراد الغاز الروسي الأوروبية، وهو ما يفسّر عدم قدرة الاتحاد الأوروبية على اتّخاذ خطوات صارمة على طريق إنهاء التعامل التجاري في مجال الطاقة مع موسكو، التي تبدو إلى حد بعيد قادرة على التأقلم مع الظروف المستجّدة سواء من خلال تنويع أسواقها الآسيوية، أو "غسيل" غازها عبر دول إقليمية صديقة للطرفين المتخاصمين كتركيا وأذربيجان وغيرها. (المشهد )