"الوضع يرثى له"، بهذه الجملة تحدثت الجندية الأوكرانية فانيا والتي تخدم في وحدة الاستطلاع التي تقاتل إلى جانب مشاة البحرية على الضفة الشرقية لنهر دنيبرو لصحيفة "فايننشال تايمز"، واصفة بكلماتها هذه أوضاع جبهة القتال ضد روسيا. يأتي تقييم الجندية بعد أشهر من الغارات الجريئة التي شنتها أوكرانيا على أراضي روسيا في الخريف الماضي لإنشاء جسر في عمق منطقة خيرسون الجنوبية، حيث اندفعت القوات تحت جنح الظلام، عبر النهر لإلحاق الضرر بالوحدات الروسية وتوفير واحدة من النقاط المضيئة القليلة منذ انتهاء الهجوم المضاد الفاشل الصيف الماضي. لكن سيطرة الوحدة على موطئ قدم دنيبرو تراجعت مؤخرا، حيث إن مواقعهم على الأراضي المستنقعية وفي خنادق العدو القديمة باتت عرضة للفيضانات أو مليئة بجثث المقاتلين الروس المتعفنة. كما أن درجات الحرارة المنخفضة جدًا تؤدي إلى إبطاء العمليات وتجعل هناك صعوبات.خسائر فادحةوتتكبد القوات الأوكرانية خسائر فادحة، كما تقول فانيا رافضة تقديم تفاصيل حول ذلك، متذرعة بالسرية العسكرية. لكنها عادت لتقول إن الروس يتمتعون بميزة وجود 4 أو 5 جنود على الأقل مقابل كل أوكراني واحد. ويمثل الشق اللوجستي جزءا من المشكلة، لأن الأوكرانيين يجب أن يعبروا النهر في سفن صغيرة حتى يظلوا غير مكتشفين وأكثر مناورة، وهذا لا يساعدهم على نقل أسلحة أكبر وأكثر فتكا، بحسب الجندية فانيا، قائلة: "كل ما نأخذه هو ما يمكننا أن نحمله بأنفسنا". وكان الهدف النهائي من انتقال القوات الأوكرانية إلى الضفة الشرقية لنهر دنيبرو هو إنشاء موقع يمكن للجيش أن يشن منه هجمات جديدة على عمق الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، غير أن هذا الاحتمال يقل يوما بعد يوم، حسبما يشير تقرير "فايننشال تايمز". وفي الأسابيع الأخيرة، قال مدونون عسكريون روس ومحللون غربيون إن القوات الروسية استعادت بعض المواقع على الضفة الشرقية للنهر. وردا على سؤال عما إذا كانت أوكرانيا تستطيع الاحتفاظ بقاعدتها هناك على المدى الطويل، كانت الجندية فانيا صريحة خلال حديثها، إذ قالت: "بالطبع لا. الحقيقة هي إن قوات مشاة البحرية لم تكن قادرة على الحفاظ على وتيرة الهجوم وبالتأكيد فقدت زمام المبادرة منذ فترة طويلة". وتتوقع فانيا الآن أن تتراجع القوات إلى مواقع دفاعية على الضفة الغربية لنهر دنيبرو، أو تخاطر بتكبد خسائر فادحة بين أقوى وحداتها. ولكن إلى أي مدى ينبغي لها أن تتبنى موقعاً دفاعياً أكثر أماناً تحسباً لسنة ثالثة صعبة من الحرب، حيث أصبح هذا التساؤل يشغل بال الكثير بما في ذلك المؤسسة العسكرية الأوكرانية وقائدها الأعلى.استراتيجية "الدفاع النشط"ومع اقتراب الذكرى السنوية الثانية للحرب في 24 فبراير المقبل، يبدو أن آفاق أوكرانيا العسكرية تتضاءل، إذ تخلت عن الآمال في تحقيق نصر سريع، وبدلا من ذلك تستعد لحرب طويلة الأمد. ويعتقد أحد المسؤولين الغربيين الذين يعملون في السياسة المتعلقة بأوكرانيا أن هناك "احتمالا ضئيلا لتحقيق اختراق عملي من قبل أي من الجانبين في عام 2024"، ناهيك عن الأشهر القليلة المقبلة. واعترفت كييف بهذه الحقيقة أيضا، حيث أعلن الرئيس فولوديمير زيلينسكي في أوائل ديسمبر الماضي أن "مرحلة جديدة" قد بدأت. وبعد فشل قواته في استعادة مناطق واسعة من الجنوب كما هو مخطط لها، أمر زيلينسكي الجيش ببناء تحصينات جديدة على طول المواقع الرئيسية، وأجزاء من خطها الأمامي الذي يبلغ طوله 1000 كيلومتر، مما يشير إلى التحول من الوضع الهجومي إلى الوضع الدفاعي. ويقول المسؤول الغربي إن استراتيجية "الدفاع النشط" التي تتمثل في الاحتفاظ بخطوط دفاعية مع البحث عن نقاط الضعف لاستغلالها إلى جانب الضربات الجوية بعيدة المدى، من شأنها أن تسمح لأوكرانيا "ببناء قواتها" هذا العام والاستعداد لعام 2025، عندما يحين موعد نشوب حرب جديدة، وهذا سيكون فرص أفضل لهجوم مضاد. لكن وفق التقرير، هناك عوامل عديدة من المرجح أن تُحدد حظوظ أوكرانيا، وأهمها حالة عدم اليقين المحيطة بالمساعدات العسكرية الغربية، بما في ذلك الذخائر التي تحرقها أوكرانيا. كما أن هناك أسئلة مفتوحة حول عزم الغرب وما إذا كان يستطيع أن يستمر في دعم كييف في معركتها، وإلى أي مدى؟ ويكمن القلق الأكبر في واشنطن، حيث أعلن البيت الأبيض عن آخر سحب للأسلحة والمعدات العسكرية لصالح أوكرانيا في 27 ديسمبر. وعلى الرغم من أن الدول الأوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة وألمانيا، تقدم بعض الدعم المالي، فإن الولايات المتحدة هي أكبر مورد للأسلحة العسكرية لأوكرانيا. وقالت الخبيرة البارزة في شؤون روسيا والتي عملت مستشارة للأمن القومي في البيت الأبيض فيونا هيل، في تصريحات لها ديسمبر الماضي إن أوكرانيا نجحت حتى الآن "بسبب الدعم العسكري الهائل من الحلفاء الأوروبيين والشركاء الآخرين". وأضافت: "لذلك في هذا الصدد، وصلنا الآن إلى نقطة تحول بين ما إذا كانت أوكرانيا ستستمر في الفوز من حيث امتلاك قوة قتالية كافية لدرء روسيا، أو ما إذا كانت ستبدأ فعليًا في الخسارة لأنها لا تملك المعدات والأسلحة الثقيلة والذخيرة. وهذا الدعم الخارجي سيكون حاسما". وحتى لو توصل البيت الأبيض إلى اتفاق مع الكونغرس لتقديم المساعدات لأوكرانيا، فمن غير المرجح أن يقفز ذلك بالقدرات والتقنيات التي من شأنها أن تسمح لأوكرانيا باستعادة الميزة بشكل حاسم هذا العام. وعندما سُئل عن الموعد الذي سيبدأ فيه وقف المساعدات الأميركية لأوكرانيا في التأثير على ساحة المعركة، قال مسؤول غربي آخر يعمل على السياسة المتعلقة بأوكرانيا: "نحن واثقون من أن الأوكرانيين لديهم ما يحتاجون إليه للاحتفاظ بمواقعهم على خط الجبهة".توابع فشل الهجوم المضادوخلال زيارته إلى واشنطن في ديسمبر الماضي، ناشد زيلينسكي الجمهوريين في الكونغرس للموافقة دون تأخير على 60 مليار دولار من المساعدات العسكرية الجديدة لبلاده.وقال زيلينسكي حينها إن المزيد من الدفاعات الجوية، على وجه الخصوص، له أهمية فورية، من أجل حماية البنية التحتية الحيوية في أوكرانيا. وكانت هذه الحاجة للدفاعات الجوية واضحة في وقت سابق من هذا الشهر، عندما استيقظ سكان كييف البالغ عددهم ما يقرب من 4 ملايين نسمة على دوي انفجارات الطائرات الروسية دون طيار وكذلك الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز. وحذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ في نوفمبر الماضي، من أن روسيا خزنت صواريخ لفصل الشتاء، وتخطط لإطلاقها على دفعات هائلة خلال الأسابيع القليلة المقبلة في محاولة لإغراق أوكرانيا في الظلام. ويأتي هذا التوقع الكئيب في الوقت الذي تدخل فيه حرب روسيا على أوكرانيا عامها الثالث، وبعد مرور 12 شهراً على ظهور اليد العليا لأوكرانيا في القتال، حيث أعطى التقدم الكاسح للقوات في شرق خاركيف وجنوب خيرسون دفعة معنوية كبيرة وثقة المجتمع الأوكراني المنهك في أن الحرب يمكن أن تنتهي بالنصر. وكتب الصحفي الأوكراني بافلو كازارين مؤخرا لموقع أخبار الحقيقة الأوكراني المستقل: "في ذلك الوقت، كانت البلاد تعيش شعورًا بأن الشيء الوحيد الذي يمنع نهاية الحرب هو الطقس".وكانت روسيا خلال هذا الوقت تترنح من هزائمها. وعندما شنت هجومًا في يناير 2023، صدّ الأوكرانيون قواتها. وفي نهاية المطاف، حققت نجاحاً محدوداً في مدينة باخموت الشرقية، حيث استخدمت تكتيكات الأرض المحروقة، لكنه كان نصراً باهظ الثمن، إذ قُتل عشرات الآلاف من مقاتليه المتمرسين في القتال، وأُنفقت كميات هائلة من ذخائر المدفعية، حسبما يذكر التقرير. ولكن في الأشهر التي تلت ذلك، فشل الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في تحقيق أهدافه، بما في ذلك استعادة الأراضي التي تسيطر عليها روسيا وقطع جسرها البري إلى شبه جزيرة القرم، إذ قُتل أو جُرح الآلاف من الجنود الأوكرانيين، ودُمرت المئات من المركبات القتالية والأسلحة التي زودها بها الغرب. ونتيجة لذلك، تراجعت الروح المعنوية الأوكرانية وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الوحدة غير المسبوقة في أوكرانيا والتي ظهرت في بداية الحرب ربما تكون في طريقها إلى التصدع. أوكرانيا تواجه تحديات عدةطالب قادة جيش زيلينسكي تجنيد ما يصل إلى 500 ألف جندي جديد، وهو رقم يأخذ في الاعتبار خسائر أوكرانيا المذهلة، وحقيقة أن العديد من القوات قاتلت لمدة عامين تقريبًا دون راحة. لكن الرئيس قال إنه يحتاج إلى سماع "المزيد من الحجج" لدعم هذه الخطوة، خصوصا أنه يشعر بالقلق أيضا بشأن اتخاذ قرار لا يحظى بشعبية.وقال الصحفي الأوكراني بافلو كازارين، مرددا الخوف المتزايد بين الأوكرانيين العاديين من أن نتيجة الحرب قد لا تكون في صالحهم: "إننا ندخل هذا الشتاء باحتياطي أصغر على ما يبدو من المرونة النفسية، ومع إرهاق جماعي أكبر على ما يبدو". وأضاف أن "مخاوف الأمة ليست في غير محلها تماما. وفي الوقت الحالي، فإن القوات الروسية هي التي تتولى الهجوم". ويحاول الجيش الروسي تطويق مدينة أفدييفكا الصناعية الاستراتيجية، حيث تتشبث القوات الأوكرانية بالكاد، في سعيها للسيطرة على منطقة دونيتسك بأكملها. وفي ديسمبر 2023، استولى الروس أيضا على ما تبقى من بلدة مارينكا المدمرة، على بعد 40 كيلومترا شمال شرق البلاد. ومع ذلك، يرى كيريلو بودانوف، رئيس إدارة المخابرات العسكرية الأوكرانية، أن الهجمات الروسية فشلت حتى الآن في تحقيق أي اختراقات، "أحدث محاولتهم المثيرة للشفقة استمرت لمدة شهرين، ولا نتائج". ولكن المكاسب التي حققتها روسيا في ساحة المعركة هي التي أجبرت أوكرانيا على تبني موقف أكثر دفاعية، وهي الاستراتيجية التي يدعمها أقوى حلفاء كييف. ونشرت وزارة الدفاع الإستونية تقريرا في ديسمبر الماضي قالت فيه إن أوكرانيا يجب أن تتحول إلى "الدفاع الاستراتيجي" لمنح البلاد وحلفائها الوقت لبناء قاعدتها الصناعية وتدريب قوات الاحتياط وزيادة القوى العاملة وتعزيز القدرة على إنتاج الذخائر لاستئناف الحملة الهجومية في 2025. ويتماشى ذلك مع الاستراتيجية التي يقال إن واشنطن تنصح بها أوكرانيا، حيث يدفع الأميركيين باتجاه نهج أكثر تحفظا، وبدلا من الهجمات البرية، سيكون التركيز هو الحفاظ على الأراضي التي تسيطر عليها الآن، وتعزيز المواقع والإمدادات والقوات خلال الأشهر المقبلة. ووفقا لوجهة النظر الأميركية، يمكن للقوات الأوكرانية أن تستمر في البحث عن نقاط الضعف في الدفاعات الروسية لاستغلالها عندما تسنح الفرصة. وعلى نحو مماثل، تستطيع أوكرانيا أن تواصل، وربما تكثف الهجمات الجوية بعيدة المدى بالصواريخ والطائرات المسيّرة والتي أثبتت نجاحها في الضربات على أسطول البحر الأسود الروسي في شبه جزيرة القرم والمطارات. ويشير أولكسندر سيرسكي، الرجل الثاني في أوكرانيا المسؤول عن القوات البرية إلى أن هذه الاستراتيجية لا ترقى إلى مستوى التحول الجذري، و"أهدافنا تبقى دون تغيير: التمسك بمواقفنا"، مؤكدا أن بلاده تعتمد على إنهاك العدو لإلحاق أكبر قدرا من الخسائر.قلق من الاعتماد على الاستراتيجية الدفاعية فقطفي المقابل، يشعر آخرون في كييف بالقلق من أن الاعتماد على استراتيجية دفاعية فقط من شأنه أن يضر بالمجهود الحربي، إذ يُحذّر أندري زاجورودنيوك، وزير الدفاع الأوكراني الأسبق، من أن التركيز على الاحتواء دون عنصر هجومي سيكون "خطأ ذا أبعاد تاريخية". ويقول وزير الدفاع الأوكراني الأسبق إنه بدون عنصر هجومي "سيظهر بوتين في جميع أنحاء العالم أنه لا يمكن لأوكرانيا الفوز بالحرب. وهذا يمنحه زمام المبادرة"، مشيرا إلى أهمية إبقاء روسيا دائما على أهبة الاستعداد في مواجهة القوات الأوكرانية. وهناك أيضا بعض الأسباب التي تجعل القوات الأوكرانية تظل متفائلة. فمنذ أن شنت هجومها حول أفدييفكا في أكتوبر الماضي، تشير تقديرات الاستخبارات الأميركية إلى أن الجيش الروسي تكبد أكثر من 13 ألف قتيل وأكثر من 220 مركبة قتالية، أو ما يعادل 6 كتائب مناورة. ويقول رئيس إدارة المخابرات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف إن هذه الأرقام زادت بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة، لكنه لا يستطيع إعطاء أرقام دقيقة. مع ذلك، يشير أول مسؤول غربي مشارك في السياسة الأوكرانية إلى أنه في نوفمبر 2023 عانت روسيا من ما معدله 1000 قتيل وجريح كل يوم، مضيفا أن أوكرانيا كانت في "موقع دفاعي قوي" حول المدينة الصناعية التي تضم مصنعا كبيرا لفحم الكوك كان يزود مصانع المعادن في المنطقة بالطاقة. وبحسب "فايننشال تايمز"، هناك سبب آخر يدفع أوكرانيا إلى زيادة التركيز على تعزيز الدفاعات، كما يشير مسؤولون أمنيون أوكرانيون تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة القضايا الحساسة، وهو أن روسيا ربما تخطط لهجوم واسع النطاق في وقت مبكر من الصيف. ومن المتوقع أن يكون هدف روسيا هو الاستيلاء على بقية المناطق، دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزابوريزجيا، والتي ضمتها في سبتمبر 2022. بالإضافة إلى ذلك، يلا يستبعد المسؤولون أن يحاول الجيش الروسي مجددا السيطرة على خاركيف أو حتى كييف. ويشير تقييم الاستخبارات الأميركية الذي رفعت عنه السرية حديثا، والذي استعرضته صحيفة "فاينانشيال تايمز" في ديسمبر، إلى أن هدف بوتين النهائي في أوكرانيا لم يتغير. وقالت الوثيقة إن هذا يفسر سبب استمرار روسيا في عملياتها الهجومية في شرق أوكرانيا عبر محاور متعددة، خاصة حول أفدييفكا، ولكن أيضا باتجاه ليمان وكوبيانسك إلى الشمال الشرقي. وتلقت روسيا الدعم في الأشهر الأخيرة من خلال شحنات من قذائف المدفعية والصواريخ من كوريا الشمالية وزيادة إنتاج الأسلحة والذخائر التي تساعدها الرقائق الصينية لتصنيع الآلات. ويقول المسؤولون إن هذه الجهود وضعتهم في وضع أفضل مما كانوا عليه بعد إضعافهم في معركة باخموت عام 2023. (ترجمات)