بعد سقوط نظام بشار الأسد وخروج إيران و"حزب الله" من المشهد السوري، بدأت ملامح جديدة تتشكّل على الأرض، في وقت تعيد فيه القوى الإقليمية حساباتها ورسم حدود نفوذها. ورغم التوتر الواضح بين تركيا وإسرائيل في الأيام الأولى التي تلت انهيار النظام، إلا أنّ التطورات والتصعيد في الأيام الأخيرة دفعت بالبلدين إلى مراجعة مواقفهما، والتفكير بتفاهمات تضمن لكل طرف تحقيق مصالحه داخل سوريا. ومع غياب سلطة مركزية وتوزّع السيطرة بين أطراف متعددة، تحاول أنقرة وتل أبيب استثمار هذا الفراغ لإيجاد موطئ قدم ينسجم مع أولوياتهما الأمنية والاقتصادية، سواء عبر اتفاقات مباشرة أو من خلال وسطاء إقليميين. تفاهمات تركية – إسرائيلية مع تأكيد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن بلاده تُجري محادثات فنية مع إسرائيل لخفض التوتر في سوريا، كشفت مصادر وزارية تركية بعض التفاصيل. فقد أشارت اليوم الخميس إلى أن البلدين عقدا أول اجتماع فني لهما في أذربيجان أمس لمناقشة وضع آلية لتفادي التضارب تهدف إلى منع الوقائع غير المرغوب فيها في سوريا، مشيرة إلى أن الوجود التركي في سوريا لن يستهدف أي دول ثالثة، وأن أي أنشطة ينفذها ستكون ضمن اتفاق بين البلدين. ولا بدّ من الإشارة إلى أن سبب اختيار أذربيجان كمكان للمحادثات بين أنقرة وتل أبيب يعود إلى مكانتها كحليف موثوق لكلا الطرفين، إذ تربطها علاقات إستراتيجية مع أنقرة وتعاون أمني وثيق مع تل أبيب، ما يجعلها طرفًا محايدًا ومقبولًا، خصوصاً أنها بعيدة عن التوترات المباشرة في الساحة السورية. يقول الأكاديمي والمحلل السياسي د.مالك حافظ في حديث إلى منصة "المشهد" إن "طبيعة التفاهمات بين أنقرة وتل أبيب، إذا ما تم تتبع السياق الأوسع، تبدو ذات طابع تقني - أمني في الظاهر، ولكنها تتصل مباشرةً بمحاور إستراتيجية تشمل منع أيّ نشاط إيراني (ولو رمزياً أو عبر خلايا معزولة)، وتأمين حدود الجولان والجنوب السوري بالتنسيق مع واشنطن، وخلق فضاء إستراتيجي قابل للتعايش، لا بالضرورة التفاهم، بين مناطق النفوذ التركية الحالية في الشمال السوري ومناطق التدخل الإسرائيلي". ويضيف حافظ أنه "من حيث المضامين، لا توجد معطيات معلنة بطبيعة الحال، إلا أن المؤشرات تشير إلى اتفاق ضمني على تجنب التصادم في مناطق تقاطع النفوذ، وخصوصاً في الجنوب الغربي من سوريا، وربما أيضاً تفاهمات حول قنوات تبادل معلومات استخباراتية، سواء داخل الأراضي السورية أو المتصلة بالخط الممتد من البوكمال إلى جبل الشيخ".من جهته، يشرح المختص في الشؤون الإسرائيلية عصمت منصور لـ"المشهد" أن "انهيار النظام في سوريا خلق فرصة بالنسبة لإسرائيل ولم تضيعها، وقامت فورًا بنشر قوات في جبل الشيخ ومن ثم في جنوب سوريا من أجل فرض أمر واقع. أدركت إسرائيل أنه سيكون هناك منافسة شديدة بين الدول التي لها مصالح أو أطماع في سوريا، خصوصا تركيا. وأرادت إسرائيل تحقيق مصالحها الإستراتيجية الحيوية سواء في سوريا أو في المنطقة. ولذلك، نشأ صدام بينها وبين تركيا".تقاسم النفوذ في سوريا تحاول تركيا وإسرائيل تقاسم النفوذ بشكل واقعي يراعي مصالح كل طرف على الأرض السورية، في وقت لا يرغب فيه الطرفان بالمواجهة. فيما تركّز تركيا على حماية حدودها ومنع أيّ كيان كردي مستقل، تواصل إسرائيل مراقبة الجنوب وتوجيه ضربات محددة ضد أي وجود تعتبره تهديدًا مباشراً لأمنها. ورغم التوترات التاريخية بين أنقرة وتل أبيب، إلا أن تغيّر موازين القوى في سوريا يدفع الطرفين للتصرف ببراغماتية للتوصل إلى صيغة تفاهم ترضي كل من الطرفين الحليفين للولايات المتحدة. وبحسب تقرير لصحيفة "يديعوت أحرنوت" فقد اتضح أن إسرائيل وتركيا تناقشان اتفاقيات بوساطة لتقسيم السيطرة إلى حين استقرار سوريا، وأن تل أبيب تقترح على تركيا تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ تحت رعاية الولايات المتحدة في الشرق وروسيا على طول الساحل الغربي. كما واقترحت تل أبيب، وفقًا للصحيفة العبرية، ترك شمال سوريا لتركيا، في حين تسيطر إسرائيل على جنوب وشرق البلاد.ويرى منصور أنه "إذا لم يُحل هذا الوضع دبلوماسيًا من خلال تفاهمات وتقاسم أدوار، فإنه قد يقود إلى صدام، والذي قد لا يكون مباشرًا بين الطرفين، لكنه قد يحدث على الأراضي السورية وبأشكال متعددة. مصالح إسرائيل واضحة في هذا السياق؛ فهي تريد منطقة عازلة، وأن لا يكون هناك جيش قوي في سوريا، وأن تكون لها حرية حركة مطلقة في الأجواء السورية. كما ترغب في أن يكون النظام السوري مواليًا لها أو ضمن المحور الذي يمكن أن يطبع معها مستقبلاً، وليس معاديًا أو داعمًا لجماعات معادية".ويلفت منصور إلى أن "هناك قضايا قد يكون من الصعب التوافق عليها. مع ذلك، توجد إمكانية للتوصل إلى تفاهمات، خصوصًا في حال تبني صيغة مشابهة لتلك التي كانت سائدة مع روسيا، حيث يمكن لإسرائيل وتركيا احترام وجود كل منهما على الأرض، ضمن قواعد عسكرية مع خط ساخن للتواصل السريع، وحرية حركة للطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية وتسليح الجيش السوري قد تكون مسائل يمكن حلها مع تطور النظام السوري والاتجاه الذي ستأخذه المنطقة".فيما يشرح حافظ أن "التحول من الصراع غير المباشر إلى تقاسم النفوذ العلني يعكس في جوهره نقلة من الفوضى إلى "نظام السيطرة"، لكنه نظام هش، يقوم على توافقات غير وطنية تتسم بالبراغماتية الأمنية أكثر من انسجامها مع أيّ منطق إستراتيجي مستدام". وبرأي حافظ هناك عدة عوامل تفسّر هذا التحول، أبرزها: سقوط نظام بشار الأسد وتفكك بنيته المركزية، ما أحدث فراغاً كبيراً في دمشق، وجعل السلطة الانتقالية غير قادرة على فرض مركزية وطنية قابلة للحياة، ما سمح بإعادة توزيع السيطرة وفق ميزان القوة الفعلي، لا وفق شرعية الحكم. كذلك هناك تراجع الرهانات الدولية على الحسم الكامل، سواء من قبل الروس أو حتى الأميركيين، أدى إلى اعتماد نموذج "الردع المتبادل" لا "الهيمنة الكاملة"، ما يجعل التنسيق والتهدئة ضرورة وليس خياراً. هناك عامل صعود الديناميات الأمنية فوق السياسية، حيث بات همّ كل فاعل خارجي هو منع تهديد حدوده أو مصالحه (كما تفعل تركيا في الشمال، وإسرائيل في الجنوب)، لا بناء دولة أو دعم مشروع سياسي. عامل آخر يتمثل بإرهاق القوى الإقليمية والدولية من تكلفة الصراع، ما أدى إلى نوع من "التواطؤ الرمزي" بين هذه القوى على إبقاء سوريا دولة محكومة من الخارج، لكن بدون تكلفة عالية أو اندفاع نحو إعادة الإعمار أو الحل السياسي الحقيقي.إسرائيل لاعب رئيسي خلال سنوات الحرب، وبموجب تفاهمات سوتشي وأستانا، سمح نظام الأسد لتركيا بإقامة عشرات النقاط والقواعد العسكرية في شمال سوريا، ما منح أنقرة نفوذاً كبيراً على الأرض. لكن بعد سقوط النظام، لم تكتف تركيا بالحفاظ على هذا الوجود، بل وسّعته أيضاً، وأنشأت قاعدة عسكرية جديدة في مطار منغ بريف حلب. التطور اللافت الآن هو أن الاتفاق المتوقع بين أنقرة والسلطة الجديدة في دمشق قد يقرّب القوات التركية أكثر من الحدود مع إسرائيل، وهو ما أثار قلقاً واضحاً في تل أبيب. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لم يتردد في التعبير عن هذا القلق، محذراً من خطورة ما يجري، ومعتبراً أن التمدد التركي في سوريا بات يشكل تهديداً يجب التنبّه له. وبعد التصعيد في الأيام الماضية صرحت الخارجية التركية بأن هناك ضرورة لأن تكون إسرائيل حاضرة في اتفاقيات دولية حول سوريا. يبين حافظ أن "تصريح وزير الخارجية التركي بضرورة إدراج إسرائيل في اتفاقيات تجنب الاشتباك التي وقعتها أنقرة مع روسيا وأميركا وإيران بشأن سوريا، هو إعلان سياسي بأن تركيا تضع تل أبيب علناً ضمن معادلة "الفاعلين الضروريين" في الملف السوري. تركيا التي حافظت طويلاً على براغماتية شديدة تجاه إسرائيل، تتقدم الآن بخطوة إضافية لتقنين الحضور الإسرائيلي في سوريا، لا بصفته تدخلاً، بل طرفاً محاوراً في رسم خطوط التماس وتحديد ساحات النفوذ". (المشهد )