تصدّى غالبية الفرنسيّين يوم أمس بكلّ ما أوتوا من قوّة لضرب حزب "التجمّع الوطنيّ" ومنع صعوده إلى السّلطة. توجّه الناخبون بغزارة إلى صناديق الاقتراع فقط لقول "لا لحزب اليمين المتطرّف"، وقد بلغت نسبة المشاركة 66.63%. نتيجة لهذه التعبئة، فإن الجبهة الشعبية الجديدة هي أكبر قوة سياسية في الجمعية الوطنية، حيث تضم 182 نائبا، لكن هذا الائتلاف اليساري لا يزال بعيدا عن الغالبية المطلقة.ضربة موجعة تلقتها مارين لوبان، وضبابيّة مُطلقة تخيّم على المشهديّة السياسيّة والحكومة الحاليّة، فكما قبل الانتخابات، كذلك بعدها… غموض، عدم استقرار، تخوّف من الأسوأ. ولعل الأسوأ سيبدأ قريباً في شكل تصدّع لبنيان المعسكر اليساري.تحالفات جديدة: تعالوا لنحكم البلاد!للإضاءة على مرحلة ما بعد الانتخابات، رأى العضو في حزب "النهضة" زيد العظم في حديث لمنصّة "المشهد" أن:النظام السياسي في فرنسا يسلك طريق النظام البرلماني على الطريقة البريطانية والطريقة الألمانية.نتائج الانتخابات الماضية والحالية تشير إلى أنه ما من أحد استطاع أن ينال الأكثرية المطلقة. ومن هنا يدرك معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون أنه من أجل حكم البلاد لا بد من تشكيل تحالف أطلق عليه حزب النهضة اسم "الجبهة الجمهورية" أو "الدرع الجمهوري" لأنه الآن وفق النتائج الحالية لا يمكن لأي تحالف أن يحكم بمفرده لأنه لا يملك أكثرية مطلقة. وبالتالي الآن جميع التحالفات وجميع الأحزاب تبحث عن إنشاء تحالفات جديدة. وتفصيلاً، يعمل حزب النهضة المسمى "معاً" على استمالة المعتدلين من الحزب اليميني "الجمهوريون" و المعتدلين من اليسار وسيقول لهم تعالوا لنحكم البلاد.فوضى وجمود لسنة على الأقلّوأضاف العظم: "إذا لم يتمكن حزب النهضة من تشكيل هذا التحالف فمن المؤكد أن فرنسا ستدخل في حالة من الفوضى السياسية والجمود لسنة كحد أدنى هي المهلة التي يتطلبها الدستور للدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة جديدة. واليوم استفقنا على انخفاض كبير في البورصة الفرنسية لأن المستثمرين بدأوا يقلقون من عدم وجود أكثرية مطلقة. هذا الواقع السياسي يولّد عدم استقرار اقتصادي لأنه ما من أحد يستطيع أن يحكم البلد".وفي سؤال عما إذا كانت من مصلحة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف أن لا يفوز بالانتخابات، يجيب العظم: "ما أراه وما أقرأه الآن أن هذه النتيجة لم ترض حزب اليمين المتطرف، وهذا كان واضحاً يوم أمس على وتعابير رئيسه جوردان بارديلا. فهو في حالة من الغضب الشديد والاستياء العارم. وقد اتهم خصومه بعقد تحالف ضدّ الطبيعة معتبراً أن اليسار خطف إرادة الفرنسيين الحقيقية… أعتقد أن نتيجة انتخابات أمس كانت صدمة حقيقية، بل ضربة موجعة تلقاها حزب مارين لوبان".تحالف اليسار "تكتيكي" ولا إصلاحاتمن جهته، رأى المحلل السياسي والخبير الاقتصادي الدكتور كميل الساري في حديث لمنصة "المشهد" أن:تحالف اليسار تحالف تكتيكي للحصول على المقاعد وعلى الأغلبية في الجمعية الوطنية. وهذا كان مفيداً وناجحاً بالنسبة للأحزاب التي تكوّن هذا التكتل بالرغم من أن هناك فروقات في وجهات النظر بينها وأن هناك عقيدة مختلفة لدى كل من الاشتراكيين وحزب "فرنسا الأبيّة" (بزعامة جان لوك ميلانشون) والتيار البيئيّ والحزب الشيوعي. لكن من الصعب الآن أن ينفرط عقد هذا التحالف لأن الناخبين سيقولون حينها أن هذه القوى كانت انتهازية وعندما وصلت إلى السلطة تحالفت مع حزب ماكرون أو مع أحزاب أخرى. لكن في المقابل، سيكون من الصعب حالياً على هذه الكتلة أن تمرر إصلاحات لأنها لا تملك الغالبية، وتحتاج ربما إلى 100 مقعد إضافي وهذا مستحيل. ومن الممكن إطاحة الكتلة اليسارية بها في الأيام الأولى من تسلمها زمام السلطة التنفيذية عبر الحكومة.تأثيرات على الاقتصادأمّا عن تأثيرات هذه الانتخابات على البورصة، فقال السّاري: "ليس من تأثير كبير لأن البورصة لا تعرف لا تقلبات كبيرة بل نوع من الاستقرار. طبعاً يتخوف رجال الأعمال والمستثمرون من أن تكون فرنسا تحت سيطرة اليمين المتطرف لأنهم يعرفون أن ذلك سيسبّب اضطرابات اجتماعية وتظاهرات وإضرابات، وقد يحصل عنف من جانب الشباب الذين يقطنون ضواحي المدن والمُنحدرين من المهاجرين".وتابع: "إلا أن هذه المخاوف تبددت الآن بهزيمة نكراء لليمين المتطرف. أما اليسار، وخصوصا اليسار الراديكالي الذي يود رفع الضرائب على الشركات والأثرياء وكذلك اتباع سياسات تولّد كلفة كبيرة بالنسبة للميزانية، ليس لديه الأغلبية النسبية ولن يتمكن من تمرير أي قوانين مضرة بمصالح الشركات لأن هناك معارضة ستطيحه بلا شك"."اليمين" القوة الأولى سياسياًمن ناحية أخرى، تطرّق السّاري إلى هزيمة حزب التجمّع الوطنيّ، مشدّداً على واقع أن "اليمين المتطرف يبقى بالرغم من هزيمته القوة الأولى من ناحية المشهد السياسي، فكل القوى الأخرى هي تكتلات وليس هناك حزب عنده مئة وأربعون أو مئة وخمسون نائباً كما عليه الشأن بالنسبة لليمين المتطرف. التجمع الوطني يمكن أن يستخلص بعض الأخطاء ليعود، فحذارِ الظن أنه هُزم بشكل نهائي. ومن الممكن كذلك أن تربح مارين لوبن الانتخابات في 2027. ومعلوم أنه عندما يكون هناك رئيس منتخب على الفرنسيين أن يعطوه أغلبية في البرلمان أي إنهم يعني يصوتون دائما للمرشحين الموالين للرئيس… ثمة تخوف من إمكان أن عودة اليمين المتطرف إلى الصدارة، ولكن يجب انتظار ما سيحصل في الأشهر والسنوات المقبلة".مستقبل فرنسا غير مستقرّوختم السّاري قائلاً "من المؤكّد أنّ مستقبل فرنسا غير مستقرّ بتاتاً والمشهد الاقتصاديّ ضبابيّ للغاية، فالحكومة المقبلة لن تتبع سياسات اقتصادية جريئة كالعادة، وسنرى أنّ العديد من القوانين لن تمر ولن يكون هناك أي تقدم، خصوصاً في مشكلة المديونية المرتفعة. ولا ننسى أن فرنسا ليست وحيدة فهي عضو في الاتحاد الأوروبي وعليها أن تخضع لقوانينه التي تنصّ على عدم رفع المديونية والحد من النفقات العمومية وعدم إعطاء هدايا لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك. كلّ ذلك سيُنتج صعوبات واضطرابات لا نعلم إلى أي مدى يمكن أن تشلّ المؤسسات السياسية والاقتصادية في فرنسا".وإزاء الشائعات حول احتمال تشكيل ائتلاف من المعسكر الرئاسي والقسم الأكثر اعتدالاً من جبهة اليسار، علّق مسؤول في "فرنسا الأبية" باستياء: "يحاول الماكرونيون سلبنا الفوز وتشكيل ائتلاف. يجب أن يتصل بنا رئيس الجمهورية" من أجل تأليف حكومة. والسّؤال المطروح وسط التخبّط الحاصل، ماذا سيحصل من الآن إلى 18 يوليو موعد الجلسة الأولى للجمعيّة الوطنيّة؟(المشهد)