أدّت التصريحات الأميركية المتعاقبة من الرئيس دونالد ترامب وأركان إدارته حول العلاقة مع روسيا ومصير أوكرانيا، إلى دق الدول الأوروبية ناقوس الخطر، ومناقشة ضرورة قيادة جهود أوروبية للتصدّي لـ"العدوان الروسي"، في ظل سياسات إدارة ترامب المتقلّبة والمصلحية. تشعر الدول الأوربية بنية جدّية لدى واشنطن للتخلّي عن دورها الرائد في حماية القارة من التهديد الروسي، وذلك عقب الإشارات المتضاربة الصادرة من إدارة ترامب، بدءاً من اقتراح وزير دفاعه بيت هيغسيث بالتنازل عن أراضٍ أوكرانية لروسيا واستبعاد الضمانات الأمنية من الناتو، وصولًا إلى مفاوضات مباشرة بين ترامب وبوتين. في المقابل، تبدو روسيا قد نجحت في تهميش أوروبا وأوكرانيا من خلال التفاوض المباشر مع واشنطن، مستغلّة شغف ترامب لعقد الصفقات. وفي حين تسعى موسكو إلى تثبيت اتّفاق مع واشنطن حول أوكرانيا، يضمن لها الانسحاب من الحرب الأوكرانية بضمان الحفاظ على مكاسبها الجغرافية المتحققة خلال معارك السنوات الـ3 الماضية، تخشى أوروبا من أن أي وقف لإطلاق النار مع روسيا سيكون مجرد هدنة مؤقتة وفرصة لبوتين للاستعداد لمواجهة مع القارة العجوز طويلة الأمد. صفقة ثنائية بـ"مشاورات شكلية" بعد إعلان دونالد ترامب ترحيبه بعودة بوتين، إلى الدبلوماسية الدولية عبر مكالمة مدتها 90 دقيقة، تليها مقابلة، وجهاً لوجه، في السعودية ربما، دون التطرق إلى وجود طرف أوروبي أو أوكراني، بدأت الانتقادات تنهال على واشنطن من الطرفين السابقين، خصوصًا وأن الدول الأوروبية قدمت دعمًا كبيراً لأوكرانيا منذ بداية الحرب في 2022، والذي كان على شكل أسلحة عسكرية ومساعدات إنسانية وعقوبات ضد موسكو.كذلك بدأت المخاوف الأوروبية حول احتمالية عقد أيّ صفقة بشكل ثنائي فقط "ترامب – بوتين" -لا تراعي مصالح أوروبا وأوكرانيا- تطفو على السطح، الأمر الذي سيؤثر بشكل كبير على النفوذ والسمعة الأوروبية في العالم. يقول المسؤول السابق في الناتو نيكولاس وليامز، في حديثه إلى "المشهد" إنّ "فريق ترامب سيتظاهر بإبلاغ، بل وحتى استشارة أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين بشأن المفاوضات مع روسيا، لكن ترامب لن يسمح للمصالح الأوروبية أو الأوكرانية بعرقلة ما يعتبره قدرته الفريدة على عقد صفقة مع روسيا". ويضيف وليامز أنّ "الولايات المتحدة ترى أنها أنفقت مبلغًا ضخمًا من المال لدعم أوكرانيا، وهذا يمنحه الحق في التفاوض على اتفاق سلام. ومع ذلك، لأسباب سياسية ومحلية، لا يمكنه أن يبدو وكأنه يتجاهل أوكرانيا تمامًا، لذلك سيبقي الأوكرانيين أكثر اطلاعًا من الأوروبيين. لكن ترامب يريد عقد صفقة مع روسيا، وسيضغط على كييف لتحقيق ذلك". ويتابع أن "السمات الرئيسية لأيّ اتفاق ستكون على طول الخطوط التي أرادتها روسيا منذ فترة طويلة: نقل الأراضي من أوكرانيا إلى روسيا، وعدم العضوية في حلف شمال الأطلسي، وهي في الواقع، تحييد وإضعاف أوكرانيا". من جانبه، يشرح المحلل السياسي الأوروبي بيتر كليبي أن "خطة ترامب لأوكرانيا كانت متوقعة، ستخسر كييف بعض الأراضي ولن تتمكن من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. كانت معظم الانتقادات، سواء من أوروبا أو الولايات المتحدة، أن هذه التنازلات تم تقديمها قبل بدء المفاوضات حتى". ويضيف كليبي في حديثه لمنصة "المشهد" أنّ "تجاهل ترامب للحكومات الأوروبية يعود إلى إهمال دفاعها لعقود من الزمن واستعانتها بواشنطن لتوفير أمنها". موقف الاتحاد الأوروبي تراقب أوروبا عن كثب المفاوضات بين ترامب وبوتين، معبرةً عن مخاوفها من تهميشها وأوكرانيا في أي اتفاق محتمل، خصوصًا وأن الحرب الدائرة هي بالأساس على أراضي أوروبية.ورغم الموقف الأوروبي المعلن، إلا أن مواقف الدول الأوروبية ليست موحدة بشكل كامل، فمنها من يرى ضرورة في استمرار دعم أوكرانيا ضد روسيا، ومنها من يرغب في إنها الحرب وعدم معاداة روسيا. هذا وحذرت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، من "الحل السريع" و"الصفقة القذرة" لإنهاء الحرب، قائلة إن أوروبا وأوكرانيا يجب أن تكونا على طاولة المحادثات لأن أيّ اتفاق سلام لا يمكن تنفيذه دون مشاركتهما.ويرى محللون أنّ الاتصالات بين ترامب وبوتين والصفقة بينهما تعتبر إذلالا لأوروبا، بحسب شبكة "سي إن إن".وأكد الرئيس الأوكراني في مؤتمر ميونيخ أنّ كييف لن تقبل أبدًا أيّ اتفاقيات سلام يجري التوصل إليها دون علمها أو مشاركتها، في رسالة ضمنيّة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب فيما يسعى لإنهاء الحرب مع روسيا.ويلفت ريتشارد ويتز كبير الباحثين في مركز هادسون في تصريحه لـ"المشهد" أنّ "بعض حكومات الاتحاد الأوروبي ستقبل الصفقة، بينما ستعارضها حكومات أخرى". ويشير إلى أنّ "هذه الصفقة ليس بالضرورة أن تؤثر على الشراكة الدفاعية بين أوروبا وأميركا، حيث إنّ إدارة ترامب لم تقل إنها ستنسحب من حلف شمال الأطلسي أو تنهي ضمانات الدفاع المتبادلة بموجب المادة 5".تقليل الاعتماد على أميركاوحول ذلك يقول وليامز إنّ "الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة سيحاولان تعزيز موقف أوكرانيا من خلال مواصلة دعمهما المالي والعسكري، حيث يريدون وضع الأوكرانيين في موقف تفاوضي قوي. ولكن بدون دعم الولايات المتحدة، من المرجح أن تفقد أوكرانيا معنوياتها ودوافعها". ويرى وليامز أنه "إذا نجح ترامب في التفاوض على اتفاق سلام بشأن أوكرانيا على طول الخطوط الروسية، فسيكون من المستحيل سياسياً على أوكرانيا والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة قبوله ما لم يتم التشاور معهم والاستماع إليهم بشكل هادف. ومع ذلك، سيحافظ الأوروبيون على موقفهم المناهض لروسيا، حتى بعد التوصل إلى اتفاق سلام، وسيحافظون على دعمهم لأوكرانيا والعقوبات ضد موسكو".مع اعتماد ترامب على سياسية ونهج "أميركا أولاً" وفك العديد من التزاماته تجاه أوروبا، تبدو الأخيرة أنها مدركة لضرورة تعزيز قدرتها على الدفاع عن نفسها وتقليل الاعتماد على واشنطن. ونتيجة لذلك، بدأت العديد من الدول الأوروبية في إنشاء مشاريع دفاعية مشتركة، مثل مبادرة "الدرع الدفاعي الأوروبي" التي تهدف إلى تقوية قدرات الاتحاد في مواجهة التهديدات العسكرية. لكن بالنسبة لأوكرانيا، على الرغم من الموقف الأوروبي الأكثر إيجابية، إلا أن الساسة الأوكرانيين يدركون أن الولايات المتحدة تبقى القوة العسكرية الأكبر في العالم، وتحدث عن ذلك زيلنيسكي بقوله: "أي ضمانات أمنية بدون أميركا لا تمثل ضمانات حقيقية". ويختتم وليامز حديثه قائلا: يناقش الأوروبيون بالفعل فيما بينهم كيفية تأمين أنفسهم دون دعم أميركي كبير. ومع ذلك، فإنّ الأوروبيين غير مستعدين نفسياً للدفاع عن أنفسهم دون تدخل واشنطن. إن الارتباط عبر الأطلسي له أهمية كبيرة بالنسبة لهم ولأمنهم. إنهم ينظرون إلى ترامب باعتباره تهديدًا وشذوذًا. وعلى مدى السنوات الأربع المقبلة، سيركز الأوروبيون على محاولة الحفاظ على حلف شمال الأطلسي كمؤسسة على الرغم من عداء ترامب. ودعا زيلينسكي أوروبا أيضا إلى إنشاء قوات مسلحة خاصّة بها، وحثّ زعماء القارة على تقرير مستقبلهم بأنفسهم وقال إن القوات المسلحة الأوكرانية لا تكفي وحدها لتحقيق الأمن.(المشهد )