خلال سنوات نضوجنا وتفتّح أعيننا على العالم، كان الإعلام العربي قد بدأ يخطو خطواته الأولى نحو ما كان أربابه والقائمون عليه يعتقدون أنه نموذج من نماذج التفاعل مع الجمهور، وكان ذلك عبر سلسلة من البرامج المباشرة التي انتشرت كالفطر على امتداد شاشات التلفزيون وأثير الإذاعات العربية تحت عنوان "ما يطلبه المشاهدون" حيث تستقبل مذيعة أنيقة أو مذيع معروف اتصالات هاتفية ورسائل من المتابعين تنتهي عادة بطلب أغنية أو إرسال سلام إلى أصدقاء وأقارب عبر الحدود.وكما هي العادة في هذا الجزء من العالم، المبتلى بـ"داء النخب" تحولت هذه البرامج - التي كانت للمفارقة أصدق ما تقدمه قنواتنا آنذاك – إلى مادة للتندر وموضوع للانتقاد المتعالي، فما يريده الناس مذموم دائما، والأصل هو الوصاية عليهم حتى في ما يختارون سماعه ومشاهدته بحجة أن هناك دائما ما هو "أكبر وأهم" ينبغي التركيز عليه، وكان وصف أي مشروع بأنه "ما يطلبه الجمهور" كفيل بوسم صاحبه بأنه من دعاة الاستهلاك السريع ومروجي الثقافة الاستهلاكية.. أو هكذا ظنوا. تسارعت هذه الذكريات في ذهني على مدار العامين الماضيين مع بدء ولادة فكرة "المشهد" بقناتها التلفزيونية ومنصاتها الرقمية. والفكرة على تعقيدها التقني ودقتها التحريرية، بسيطة وبديهية في أهدافها. خدمة إعلامية تقدم للجمهور المزيج الأمثل من الأخبار الدقيقة والسريعة، والمحتوى البرامجي الذي يدمج البعد المعرفي والتثقيفي بالأسلوب الخفيف والساخر الذي يصل للجمهور بناء على تفضيلاته ويراعي اختياراته وطرق تفاعله/ ويتطور بتطور أساليب استخدامه. أما الطريقة، فهي من خلال حلول عابرة للمنصات، محورها الأساسي هو القصة بكل خلفياتها وتداعياتها وتأثيراتها على الحياة اليومية، والتي يمكن قراءتها أو مشاهدتها أو سماعها على أكثر من منصة وجهاز، بما فيها التلفزيون، الذي مازال يتصدر غرف جلوسنا وإن كانت استخداماته قد تبدلت وتحول معها من أداة لاستقبال محتوى مقرر مسبقا إلى شاشة نعرض عليها محتوى من اختيارنا. أقول إن الذكريات تسارعت في ذهني خلال تلك الفترة لأن العين لم يكن بإمكانها إلا أن تلاحظ الفارق في ردود الفعل بين من سمعوا مني الفكرة، فالعيون لا تكذب، وهي كانت بين مشجع ومتحمس لرؤية جديدة في الإعلام العربي، وبين متسائل حول ما إذا كنا سنسير في ركب "ما يطلبه الجمهور". والفارق بين الاثنين لم يقتصر على التباين بين جيلين فحسب، الأول عايش أساليب العمل وأولوياته القديمة والثاني واكب تبدلاته وأيقن أن التغيير هو الثابت الوحيد، بل هو في جوهره فارق في الرؤية بين من يدرك أن جمهور مجموعة من "المتفاعلين" وبين من يرى فيه مجموعة من "المتلقين". اليوم، ومع قرب انطلاق المشهد، أقول بثقة أننا اخترنا "ما يطلبه الجمهور"، لكن أي جمهور؟ إن جمهور "المشهد" المستهدف هو في المقام الأول شباب هذه المنطقة، الجيل الذي يشكل أكثر من 65% من سكانها، والقوة الدافعة اليوم لاقتصادها الحيوي ومجتمعها الحي الذي يموج بالآمال والأحلام، ويبحث عن أدوات للتمكين وإطلاق القدرات وتبني اقتصاد المعرفة وإطلاق قطاعات المستقبل القائمة على تطبيقات الثورة الصناعية الرابعة وحلولها الذكية. جمهور "المشهد" هو بلا منازع، الجيل صاحب أكبر قدر من المعرفة في تاريخ الإنسانية، كيف لا وقد قال إيريك شميت، الرئيس التنفيذي السابق لغوغل، إن العالم اليوم ينتج ويتبادل معلومات كل يوم تفوق كامل المعرفة البشرية منذ بدء الخليقة وحتى 2003. الجيل الذي أنتج 2.5 كوادترليون بت من المعلومات يوميا عام 2022. جمهور "المشهد" هو الجيل الذي لا يقبل ما يقال له دون تدقيق وتمحيص، فهو صاحب العقلية النقدية القائمة على التشكيك الإيجابي التي يقول تقرير "مستقبل العمل" الصادر عن منتدى الاقتصاد العالمي أنها الميزة الأساسية لوظائف العصر الجديد، وهو الجيل الذي يقّدم أولوياته الإنسانية ووعيه لذاته على احتياجاته الأخرى المادية، والذي غادر أفراده وظائفهم بمئات الآلاف العام الماضي في ما عُرف بـ"موجة الاستقالات العظيمة" في الغرب. جمهور "المشهد" هو الجيل الذي أورثناه نحن تحديات الاقتصاد والمناخ والغذاء وسلاسل الإمداد، والذي يشغله في منطقتنا، كما أظهر استطلاع رأي الشباب العربي، قضايا التنمية الاقتصادية والعمل والمعيشة ويبحث عن طرق أفضل لتطوير وعيه بنفسه وهويته ومحيطه. علينا أن نفسح المجال اليوم لانطلاقة جديدة للإعلام العربي تواكب اهتمامات وأولويات الجيل الجديد، الذي أثبت أنه يعرف أكثر مما نتصور وقادر على استنباط حلول عجزنا نحن عن التفكير فيها، أو تكاسلنا بحجة أن هناك "ما هو أكبر وأهم"، فغرقت معظم دولنا في دوامة صراعات ما قبل التاريخ أو تحولت فيها أحلام التنمية إلى سراب. هذا الجيل هو جمهور المشهد، وله سنقدم ما يطلبه الجمهور... كي يكتمل المشهد.