يحطّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في العاصمة المصرية القاهرة، بعد انقطاع دام 12 عاماً على آخر زيارة إردوغان لمصر، في توقيت رمزي لجهة تاريخه وتفاصيله، على أمل إعادة العلاقات بين تركيا ومصر إلى سابق عهدها، والواقعتين على الطرفين الشمالي والجنوبي لشرق البحر الأبيض المتوسط. ويزخر جدول الأعمال المزدحم للقاء إردوغان بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي بالعديد من الملفّات الساخنة تتصدّرها العلاقات الثنائية، والهجمات الإسرائيلية على غزة والجهود الرامية إلى التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار والتعاون في شرق المتوسط وليبيا والغاز والتبادل التجاري والعسكري وغيرها. ويصل الرئيس التركي إلى وجهته المصرية قادماً من الإمارات العربية المتحدة، حيث شارك في القمة العالمية للحكومات.مسار التطبيع بعد زيارة إردوغان لمصركانت زيارة إردوغان لمصر الأخيرة في نوفمبر 2012، خلال فترة رئاسته للوزراء قبل أن تنهار العلاقات بين أنقرة والقاهرة بعد الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي عام 2013، وهو الذي حظي بدعم وتأييد كبيرين من الرئيس التركي، في سياق دعم الأخير لجماعة الإخوان المسلمين.واستمر الانهيار في العلاقات الدبلوماسية، التي اقتصرت على التمثيل المتبادل بمستوى القائم بالأعمال بين البلدين، على مدى 8 سنوات تقريباً قبل أن يبدأ مسار التطبيع باجتماع مسؤولي الاستخبارات ومن ثم وزراء الخارجية. كما هنأ السيسي نظيره التركي بفوزه بالانتخابات الرئاسية في مايو الماضي، ليبادله إردوغان التهنئة بفوزه بالانتخابات الرئاسية المصرية في ديسمبر الماضي. وأعطى اللقاء بين الرئيسين إردوغان والسيسي في نهائيات كأس العالم في قطر في نوفمبر 2022، ومن ثم في "قمة العشرين" في الهند في سبتمبر العام الماضي ولقاء الرياض لاحقاً في نوفمبر 2023 على هامش القمة المشتركة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، دفعاً لعملية التطبيع بالتزامن مع تبادل السفراء بين البلدين. في 22 نوفمبر 2023 صدرت الإشارة الأولى من الرئيس التركي حول عزمه زيارة القاهرة حين قال "نريد إخراج المرضى من غزة وإحضارهم إلى بلادنا. قد أقوم بزيارة مصر في أقرب وقت ممكن". ويرى الصحفي التركي المتخصص بسياسات تركيا الشرق أوسطية علي كمال إرديم، في حديثه مع "منصة المشهد" أن "خطوات إعادة العلاقات التي اتّخذتها تركيا مع كل من الإمارات والسعودية تبقى منقوصة دون انضمام مصر إليها، نظراً لثقلها في السياسة العربية والإقليمية، كما أنّه ليس هناك أصل خلاف جذري بين البلدين". وبالمثل، يؤكّد الكاتب والباحث المصري في العلاقات الدولية أحمد العناني، خلال حديثه مع "منصّة المشهد" أن "مصر دولة فاعلة في المنطقة وممسكة بملفات سياسية كبيرة وعديدة وبالتالي فإن تركيا بحاجة إلى علاقات مستقرّة معها" من أجل نجاح مشاريعها الاقتصادية وأهدافها السياسية في إفريقيا وشرق البحر المتوسط والشرق الأوسط.غزة الملف الساخن تكتسب زيارة الرئيس التركي إلى مصر أهمية استثنائية. فهي إلى جانب كونها زيارته الرئاسية الأولى، إلا أنها تأتي في ظل استمرار الحرب بين إسرائيل و"حماس" والمخاوف من اتّساع رقعة الصراع في غزة لتشمل بقعاً متوترة أو إستراتيجية أخرى في سوريا ولبنان وإيران والبحر الأحمر. وقبل وصوله إلى القاهرة قال إردوغان إن الهجمات الإسرائيلية في غزة ستكون على رأس أجندة محادثاته مع السيسي غداً الثلاثاء. يحتل الملف الفلسطيني ركناً أساسياً في السياسة الخارجية المصرية. وعبر العقود الماضية، أتاحت اتّفاقية "كامب ديفيد" بين تل أبيب والقاهرة الفرصة أمام الأخيرة للعب دور حاسم في الوساطة في الأزمات السابقة بين إسرائيل والأطراف الفلسطينية. وبرز هذا الدور بشكل فعّال في المفاوضات التي رافقت اشتداد حدة الصراع بين إسرائيل و"حماس" في غزة بعد هجوم 7 أكتوبر، إذ أفضت في جولتها الأولى إلى وقف مؤقت لإطلاق النار أتاحت الفرصة أمام إتمام صفقة محدودة لتبادل المحتجزين لدى "حماس" مقابل إطلاق إسرائيل سراح معتقلين فلسطينيين وإدخال مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة المحاصر، وكل ذلك بوساطة مصرية-قطرية مشتركة. في المقلب الآخر، برزت تركيا كجهة فاعلة في الملف الفلسطيني على خلفية الزخم الذي اكتسبته العلاقات بين حزب العدالة والتنمية ورئيسها رجب طيب إردوغان وحركة "حماس" التي تخضع قطاع غزة لسيطرتها الكاملة منذ عام 2007، ما منح أنقرة إمكانية تقديم نفسها كجسر وسيط في هذه المفاوضات.ردّت حماس على صفقة باريس لوقف أطلاق النار بالمطالبة بأن تكون روسيا وتركيا أيضاً ضامنة لتنفيذ الاتّفاق إلى جانب قطر ومصر والولايات المتحدة. ويرى العناني أن "تركيا تحاول لعب دور في مسار وقف إطلاق النار في غزة، وهي ستحاول الاستفادة من علاقات مصر القويّة مع الفصائل الفلسطينية ومع إسرائيل، أي مع طرفي النزاع"، مشيراً إلى "أهمية الاستقرار في المنطقة بالنسبة لتركيا ومشاريعها السياسية والاقتصادية وهو ما يمكن تحقيقه من خلال التعاون مع مصر".المصالح الاقتصادية والتعاون العسكري يشير العناني إلى مكانة مصر وموقعها "كبوابة لإفريقيا والجانب التركي يريد الاستثمار في إفريقيا، وأي استثمار تركي في مصر يعني نجاحه في إفريقيا أيضاً، كما أن مصر لديها بنية تحتية قوية، وتطمح تركيا للوجود في الأسواق الداخلية والخارجية المصرية". واستبقت أنقرة زيارة رئيسها إلى مصر بالموافقة على تسليم القاهرة مسيّرات قتالية، ما اعتبر دليلاً آخر على اكتمال مسار المصالحة بين البلدين. وأعلن وزير الخارجية التركي، ورجل المخابرات السابق، هاكان فيدان، خلال مقابلة تلفزيونية يوم الأحد أن "التطبيع اكتمل إلى حد كبير" معتبراً العلاقات بين البلدين "مهمة للأمن والتجارة في المنطقة". من جانبه يشرح إرديم أن "التعاون العسكري بين أنقرة والقاهرة، ليس جديداً وإن كان الحديث عنه تجدد بعد تطبيع العلاقات، لكن مصر قامت سابقاً بتجديد بعض مقاتلات إف-16 خاصتها في تركيا، كما قامت بتجربة بعض أنواع المدرّعات تركية الصنع من أجل شرائها". وبحسب إرديم "بيع مسيرات بيرقدار بحد ذاته لا يشير إلى تعاون عسكري وثيق بين الجانبين، لأن هذا النوع من المسيرات انتشر في جميع أنحاء العالم، وهو متواجد حتى في الصومال حالياً، لكن مستقبل التعاون العسكري مرتبط باستمرارية، واستقرار العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الجانبين". وأضاف: "كل بلد له مصالح اقتصادية كبيرة في علاقته مع الآخر، والعلاقات الطبيعية ستنعكس بالمنفعة على كليهما". رغم أن العلاقات تبدو وكأنها عادت إلى مسارها الطبيعي، فإن الاضطراب والوصول إلى حافة المواجهة خلال أكثر من عقد يدفع بالاعتقاد بأن الطرفين سيواصلان مراقبة واختبار بعضهما البعض لفترة من الوقت، إلى حين عودة الثقة بينهما. (المشهد)