بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، سعت موسكو لإقامة قنوات اتصال مع الإدارة الجديدة في سوريا، في خطوة تهدف إلى الحفاظ على ما يمكن إنقاذه من نفوذها الكبير سابقاً في البلاد عبر التفاوض للوصول إلى تفاهمات مع القيادة الجديدة.وفي هذا السياق، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اتصالاً هاتفياً مع الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، في أول محادثة بينهما بعد منح الأسد اللجوء الإنساني، حيث بحثا العلاقات الثنائية بين البلدين وآخر التطورات في سوريا. وأفاد الكرملين، في بيان، بأن بوتين هنأ الشرع على توليه منصبه الجديد، متمنياً له التوفيق في قيادة البلاد، مشيراً إلى أن المحادثة اتسمت بطابع "بناء". تبع ذلك إعلان المركزي السوري عن وصول 300 مليار ليرة سورية قادمة من روسيا عبر مطار دمشق الدولي، بناء على عقد موقّع بين نظام الأسد وموسكو كان من المفترض انجازه قبل نهاية العام الماضي.الحفاظ على النفوذ ويرى الأستاذ المحاضر في جامعة موسكو والخبير في السياسات الدولية إقبال دوري، في حديثه مع منصة "المشهد" أن "موضوع القواعد العسكرية الروسية شائك وليس بالإمكان البت في مستقبله خلال الأيام والأسابيع القليلة".ويقول دوري، القريب من دوائر صنع القرار في الكرملين "نحن نتحدّث عن اتفاقيات طويلة الأمد تغيّرت ظروفها بين ليلة وضحاها، كما أن ما يقبله الشرع اليوم ليس شرطاً أن يستمر في قبوله بعد سنوات حينما يتمكّن من السلطة في سوريا".وبالمثل، يقول المحللُ السياسيُّ الروسيُّ أندريه تشوبريغين "لا شك أن روسيا ستسعى للحفاظ على جزء من نفوذها في سوريا، أخذاً بعين الاعتبار الجهود التي بذلتها في سوريا منذ الاتحاد السوفييتي".وتساءل تشويريغين "هل موسكو تستطيع التكيف بالموقف الجديد؟ لا توجد إجابة على هذا السؤال الآن".منذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015، سعت روسيا إلى تمكين وتجذير وجودها في سوريا، وذلك اعتماداً على حاجة الأسد، الذي قدمت له دعماً مكّنه من البقاء في سدة الحكم، مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية والأهم عسكرية، طويلة الأمد. بموجب هذا الاتفّاق حصلت روسيا على نقاط ومراكز عسكرية في الجغرافية السورية، أبرزها قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، وقاعدة طرطوس البحرية، إلى جانب لعبها دور الوسيط الرئيسي في المفاوضات بين دمشق والمعارضة، عبر مسارات سوتشي وأستانا ومع المجتمع الدولي بدءًا من الدول الإقليمية. تعتبر القيمة الإستراتيجية لقاعدة طرطوس البحرية كبيرة لموسكو باعتبارها الميناء الروسي الوحيد الخالي من الجليد في المياه العميقة في البحر الأبيض المتوسط، ومعبر أسطول البحر الأسود للتقدم نحو المحيط. وتشير البيانات إلى أنه في عام 2023، نفذت البحرية الروسية 47 مهمة بحرية عبر القاعدة، بزيادة قدرها 320% عن عام 2015. كما أصبحت قاعدة حميميم الجوية نقطة عبور للجيش الروسي للتدخل في الشؤون الإفريقية. ووفقاً لإحصاءات استخباراتية مفتوحة المصادر، فإنّ 85% من عمليات انتشار مجموعة فاغنر الإفريقية تمر عبر نقطة عبور حميميم. تبرز مسألة استمرار موسكو بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية كأكبر تحدّ يواجهه بوتين بعد الإطاحة بحليفه السوري، وهو مسار صعب يتخطى رغبة الإدارة السورية الانتقالية أو موقفها. وكان بوتين قد نفى أن يكون سقوط الأسد "هزيمة لروسيا".مصلحة متبادلة في الوقت الذي تسعى فيه روسيا الحفاظ على نفوذها في سوريا، ترى الإدارة الجديدة ضرورة في إقامة علاقات جيدة مع موسكو، خصوصًا في ظل حاجتها خلال هذه المرحلة إلى دعم دولي، حيث تظلّ روسيا لاعباً قوياً قادراً على التأثير والتغيير في التوازنات الإقليمية. وتعدّ العلاقات مع موسكو عامل توازن لمواجهة النفوذ الأميركي والتركي في البلاد، كما أن مقعدها الدائم في مجلس الأمن يدفع الإدارة الانتقالية في سوريا إلى على عدم استعدائها، حيث يمكن لروسيا أن تكون جسراً للتواصل مع أطراف دولية أخرى، مثل الصين والدول القوقازية، لدعم مصالح دمشق في حال استمرار العقوبات الغربية لفترة طويلة. كذلك تسعى الإدارة الجديدة للاستفادة من العلاقات الروسية لتحقيق الاستقرار وكسب اعتراف دولي وطي صفحة الماضي المرتبطة دوليا بالإرهاب. المصلحة المتبادلة، دفعت بموسكو إلى إرسال وفد رسمي برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف إلى دمشق أواخر يناير، مؤكدة التزامها بدعم "وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها"، قابلتها تأكيدات من السلطة الانتقالية على ضرورة أن "تراعي استعادة العلاقات تصحيح أخطاء الماضي". وفي هذا السياق لا يستبعد استمرار روسيا في "تبنّي القوّة الناعمة" حيال دمشق من خلال "إرسال شحنات القمح والنفط وحتى المعدّات والتكنولوجيا التي تحتاجها سوريا" في ظل الحصار المفروض عليها. من جهته يعتقد تشوبريغين أنّ "السباق الجديد للحصول على النفوذ ملحوظ في سوريا الجديدة، وذلك بين روسيا التي تحاول الرجوع إلى مستوى التعاون الإيجابي بما فيها القواعد العسكرية، وبين أوروبا التي تحرّكت فوراً لإقامة علاقات جديدة مع سوريا، وعلى الأقل منع روسيا من العودة".مصير الأسدتبدو مسألة مصير الأسد وأعوانه، أحد الملفات الشائكة بين الجانبين، في ظل تسريبات إعلامية لشخصيات مقرّبة من السلطات الانتقالية في سوريا، تحدّثت عن مطالبة دمشق من موسكو تسليم هؤلاء كخطوة ممهدة لعودة الدفء في العلاقات بين الجانبين. يقول تشوبريغين إنّ "سقوط الأسد كان ضربة واضحة لمواقف روسيا، والصعوبة في العودة إلى مثل المواقف السابقة ملحوظة اليوم". هذه المطالب، في حال تحقيقها تضع الكرملين في مأزق، إذ إن تسليم الأسد قد يلحق الضرر بصورة روسيا الدولية "كحليف موثوق"، وفي الوقت ذاته ستؤدي خسارة القواعد العسكرية الإستراتيجية إلى إضعاف قدراتها الجيوسياسية بشكل ملحوظ. هذا ويستبعد دوري إقدام روسيا على تسليم الأسد لأن ذلك "سيلحق ضرراً كبيراً بصورة روسيا وطبيعة علاقاتها وتحالفاتها"، قائلاً إنّ "هناك العديد من الحلول لتسوية العلاقات بين الجانبين، دون التطرّق إلى مثل هذه المسألة بالغة الحساسية".وينهي دوري حديثه إلى "المشهد" بالقول "في حال توصّل بوتين وترامب إلى اتّفاق ينهي الحرب الأوكرانية، فإن صورة روسيا الراضية لتقديم تنازلات بسبب وضعها المتأزم خلال الحرب، ستتغير كلّياً، لذلك علينا انتظار نتائج هذه المباحثات للبت بشكل قطعي في طبيعة العلاقات بين موسكو ودمشق".(المشهد - دمشق)