برز محور فيلادلفيا منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، كأحد أهم المحاور الإستراتيجية والمسرح الرئيسيّ لمحاولات إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية والأمنية لليوم التالي ما بعد الحرب، ما جعله النقطة الأكثر سخونة، ليس في مجريات الصراع الحاليّ فحسب، بل في القضية الفلسطينية بشكل عام.على مدار عقود، لعب هذا الشريط الحدوديّ دورًا حاسمًا في العمليات العسكرية، وأيضًا في الأنشطة التجارية، ما جعل السيطرة عليه أولوية قصوى لجميع الأطراف الفاعلة، وقد شهد تحوّلات عدة لجهة السيطرة، سواء من قبل السلطة الفلسطينية، أو "حماس"، أو الجانب الإسرائيلي. محور فيلادلفيا معبّد بجثث الأسرى مع قرب التوصّل إلى اتّفاق وقف لإطلاق النار طال انتظاره لأشهر طويلة، بات محور فيلادلفيا نقطة توتر محورية بين إسرائيل و"حماس" ومصر، وسط مخاوف من العودة إلى النقطة الصفر في المفاوضات الطويلة، التي انخرطت فيها دول إقليمية ودولية على مدى أشهر مضت. رفض رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتانياهو الاثنين، إبداء أيّ مرونة في مسألة انسحاب القوات الإسرائيلية من "محور فيلادلفيا"، كمفتاح لإنجاح اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين، مؤكّدًا أهمّية السيطرة عليه بالنسبة لتل أبيب، بحجة تمثيله شريان حياة رئيسيًا "لحماس"، بحسب قوله. وربط نتانياهو ما أسماه "بتحقيق أهداف الحرب على غزة"، بإبقاء السيطرة على المحور، وذلك "من أجل ضمان عدم تهريب الأسرى" إلى خارج القطاع، و"منع تدفّق السلاح إلى حماس"، على حدّ قوله. تصريحات نتانياهو قوبلت بسخط مصريّ كبير، إذ اتّهمت الخارجية المصرية في بيان لها يوم الثلاثاء، نتانياهو، "بمحاولة الزجّ باسم مصر لتشتيت انتباه الرأي العام الإسرائيلي"، وعرقلة جهود الوساطة للتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار. كما جذبت تصريحات نتانياهو الأخيرة وإصراره على إبقاء السيطرة الإسرائيلية على المحور، ردود أفعال إقليمية رافضة، بالإضافة إلى الاتّهامات الداخلية بالمراوغة السياسية لكسب الوقت، والتلاعب بسلامة المحتجزين، واصفة "المحور، بأنه معبّد بجثث الأسرى" الإسرائيليّين لدى "حماس". من جانبها، اعتبرت "حماس" أنه "لا توجد حاجة إلى مقترحات جديدة لوقت إطلاق النار"، قائلة إنّ "المطلوب الآن، هو الضغط على نتانياهو وحكومته وإلزامهم بما تم التوافق عليه". ويرى المحلل السياسيّ الفلسطينيّ د. أحمد رفيق عوض في حديثه إلى منصة "المشهد"، أنّ:دوافع إصرار نتانياهو على البقاء عسكريًا في محور فيلادلفيا، ليست أمنيّة على الإطلاق، وذلك بشهادة المنظومة الأمنية الإسرائيلية ذاتها. نتانياهو يعرف تمامًا أنّ المصريّين قاموا بكل الجهود من أجل تدمير الأنفاق، وقالوا ذلك علنًا.المسألة لها علاقة برغبة نتانياهو بإعادة احتلال قطاع غزة ومحاصرتها من جميع معابرها الـ6، بالإضافة لمحور فيلادلفيا. كما أنّه يستخدم آلية الرجل القشّ بحرف الحوار وتغيير الأولويات. وبدلًا من أن يكون الحديث عن وقف طلاق النار وتبادل الأسرى، وانسحابات معينة وإدخال المساعدات، حوّل النقاش كلّه على محور فيلادلفيا، من خلال تكتيك حرف الأنظار والدخول في تفاصيل التفاصيل والغرق في الجزئيات، وهذا أسلوب معروف في التفاوض مع نتانياهو.أهمية محور فيلادلفيا محور فيلادلفيا الذي يُعرف أيضًا "بمحور صلاح الدين"، شريط جغرافيّ في قطاع غزة متاخم للحدود المصرية، بدءًا من البحر المتوسط في الشمال، وانتهاءً بمعبر كرم أبو سالم في الجنوب، بطول نحو 14 كيلومترًا. بموجب اتفاقية "كامب ديفيد" الموقّعة بين إسرائيل ومصر في عام 1979، تم تقسيم شبه جزيرة سيناء إلى مناطق أمنية عدة، حيث صُنّف محور فيلادلفيا ضمن المنطقة "د"، الخاضعة لشروط صارمة لناحية عدد ونوعية القوات المسموح بوجودها على جانبَي المحور. انسحبت إسرائيل من المحور في عام 2005 بعد السيطرة عليه خلال احتلالها للقطاع، وسلّمته للسلطة الفلسطينية، تلاه توقيع اتفاقية جديدة للتنسيق الأمنيّ بين تل أبيب والقاهرة بشأن المحور، بهدف ضمان الحد من تهريب الأسلحة عبره، ومنع الأنفاق التي كانت تُستخدم من قبل الفصائل الفلسطينية للحصول على الإمدادات العسكرية. وبينما تعتبر مصر استقرار المحور عاملًا حيويًا لأمنها القومي، حيث يشكل بوابة رئيسية لمنع تسلل العناصر الإرهابية والتهريب غير المشروع من قطاع غزة، ترى إسرائيل في السيطرة عليه جزءًا أساسيًا من إستراتيجيّتها الخاصة بحرب غزة. يؤكد الساسة الإسرائيليون من اليمين المتطرف، أنّ الاحتفاظ بالسيطرة على الممر، ضروريّ لإضعاف "حماس" اقتصاديًا وعسكريًا، من خلال منع التنظيم من الوصول إلى الموارد المالية والأسلحة والإمدادات اللوجستية. لكنّ رغبة نتانياهو بالسيطرة على محور فيلادلفيا، قوبلت بمعارضة قوية من قبل مصر، التي تدعم رسميًا السيادة الفلسطينية، وتعتبر قطاع غزة جزءًا لا يتجزّأ من القضية الفلسطينية الأوسع، معتبرة الإصرار الإسرائيليّ تقويضًا للسيادة الفلسطينية، ما يؤثّر على دورها التاريخيّ في الصراع الإسرائيليّ - الفلسطيني. فلسطينيًّا، يُوصف المحور "بأوكسجين الحياة" بالنسبة لغزة، حيث يتيح إدخال الموارد إلى القطاع، وسط تقارير غير مؤكّدة عن ضخّ ما يصل إلى مليار دولار سنويًا عبره. فيما تدّعي تل أبيب من خلال تقديرات استخباراتية وتقارير صادرة عن جيشها، وجود عشرات الأنفاق تحت الأرض، بعضها يتّسع لدخول الشاحنات إليها، ما يسهّل من عمليات التهريب الواسعة، بحسب قولها. ينفي الخبير الأمنيّ والعسكري، سعاد ديلغين، نجاعة الخطة الإسرائيلية في منع عمليات التهريب عبر الأنفاق، من خلال السيطرة على محور فيلادلفيا. ويقول الضابط السابق في غرفة عمليات "شمال الأطلسي" في حديثه إلى "المشهد"، إنّ "القوّة العسكرية الإسرائيلية غير كافية لتحييد فاعلية الأنفاق عبر الوجود على الأرض، والتعامل مع الحالات المعقّدة كالأنفاق، يكون من خلال تأمين ورود المعلومات الاستخباراتية بالدرجة الأولى".محور فيلادلفيا يهدّد الاستقرار الإقليمي يرتبط النزاع المستمر على محور فيلادلفيا، بمناقشات أوسع حول مستقبل قطاع غزة، خصوصًا في ظل دعوات بعض السياسيّين الإسرائيليّين من اليمين المتطرف، إلى إعادة توطين الإسرائيليّين في غزة، ما يزيد من خطورة إصرار تل أبيب على ضمان السيطرة طويلة الأمد على المنطقة، في خطوة تعني وأد حل الدولتين. تُظهر التوترات المحيطة بمحور فيلادلفيا، التعقيدات الأوسع للعلاقات الإسرائيلية - المصرية. يهدف نتانياهو من خلال التعنت في موقفه حول القطاع، إلى كسب المزيد من التأييد الداخلي، وهو الذي تعرّض إلى نزيف حاد في شعبيّته وسط التظاهرات المتصاعدة والمحمّلة إياه مسؤولية موت المحتجزين الستة لدى حماس، قبل أيام. في المقابل، تنطلق القاهرة في مواقفها من مخاوفها الأمنية وتناغمها مع الموقف الغالب لدى الرأي العام المصري، وسط حالة من اللايقين بشأن مستقبل الممر وهشاشة الوضع الأمنيّ والإنسانيّ في قطاع غزة ككل، وتداعيات ذلك على الاستقرار الإقليمي. ويرى د. عوض أنّ "التعنّت الإسرائيليّ بالاحتفاظ بالسيطرة على محور فيلادلفيا، يضرّ باتفاقية السلام مع مصر. فوجود القوّات الإسرائيلية بهذه الكثافة في محور فيلادلفيا، تهديد للأمن القوميّ المصري، بعيدًا عن المساس ببنود اتّفاقية السلام". عارضت الولايات المتحدة أيّ تقليص للحدود الجغرافية لغزة، داعية إلى تولي السلطة الفلسطينية مسؤوليات الأمن في المنطقة، في موقف يتناقض مع الطروحات الإسرائيلية لإنشاء وجود عسكريّ مباشر في غزة، ما يوضّح تعقيدات العلاقات الدولية المحيطة بحرب غزة، وخصوصًا محور فيلادلفيا. يقول ديلغين، "المستوى السياسيّ عادة يعلن الهدف السياسيّ النهائي، وتقوم الجهات العسكرية بوضع الخطط الميدانية لتحقيق ذلك الهدف. في الوضع الإسرائيليّ الهدف السياسيّ غير واضح، وبالتالي العسكر غير مقتنعين بالتصريحات والمواقف السياسية، لذلك نرى العقلاء منهم والذين لا يرغبون بالتورط في مغامرات الساسة السياسيّين، يتنحّون جانبًا عبر تقديم استقالاتهم". يبقى محور فيلادلفيا نقطة محورية في النزاع المستمر بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، حيث تتداخل فيه الأبعاد الأمنية والسياسية بشكل معقّد، لتؤثّر نتائج الصراع الجيوسياسي المحيط به بشكل كبير، ليس فقط على إسرائيل و"حماس" ومصر، ولكن على الشرق الأوسط الأوسع، وديناميّاته السياسية، وآفاق السلام في هذه المنطقة المضطربة. (المشهد)