مزيج من الأمل والقلق يخيّم على المجتمعات المسيحية القديمة في سوريا بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وسيطرة الإسلاميين على البلاد، رغم إعلان "هيئة تحرير الشام" التزامها باحترام حقوق الأقليات الدينية، بمن فيهم المسيحيون، وتأكيدها على حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية والاحتفال بأعيادهم كالميلاد وغيرها.هذه التطمينات، لم تنفِ الشكوك والمخاوف التي تنتاب فئات واسعة من الأقلية المسيحية حول مصير الطوائف المسيحية من جهة، والخشية من وقوع انتهاكات تحت مسمّى "انتهاكات فردية" من جهة أخرى.الأسد لم يحمِ الأقليات مع بداية الحرب السورية، دعم المسيحيون بنسبة كبيرة نظام الأسد مدفوعين بمخاوف الاضطهاد في ظل حكم الإسلاميين. وأدّى الصراع المستمر على مدى 12 عامًا إلى انخفاض حاد في عدد المسيحيّين السوريين، حيث تشير التقديرات إلى تراجع نسبتهم من نحو 10% من السكان قبل الحرب إلى نحو 1.5% حاليًا. وفي مدن مثل حلب، تقلصت المجتمعات المسيحية من نحو 500,000 إلى أقل من 30,000. لكنّ الشاب بشار خرّام، من مسيحيي وادي النصارى في سوريا له رأي مخالف للاعتقاد السائد بكون الأسد حاميًا للأقليات الدينية. يقول خرام في حديثه إلى منصّة "المشهد": "الأسد الفار لم يستطع حماية المسيحيين خلال سنوات الحرب سوى في بعض المدن الكبرى، فقد ترك مسيحيي الرقة ودير الزور وتل تمر تحت رحمة داعش، وكذلك الأمر بالنسبة لمسيحيي درعا وحتى المسيحيين في قرى إدلب وريف اللاذقية". ويشرح خرّام أنّ "الدستور السوريّ حرّم المسيحيين من الترشّح لمنصب رئاسة الجمهورية، الذي حصره بالمسلمين، في دليل واضح على معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية ومنقوصي الحقوق". في المقابل، يؤكد (ج.ر) من أرمن مدينة حلب أنّ "مسؤولي "هيئة تحرير الشام" يصرّون على ضرورة ممارسة الطوائف المسيحية لشعائرها المعتادة، ويبثّون رسائل طمأنة للمسيحيين من خلال قادتهم الروحيين". لكنه يضيف في الوقت ذاته "هناك استعدادات خجولة للاحتفال بأعياد الميلاد، لكن من دون شك هذه الاحتفالات لن تكون كالسنوات الماضية، والمخاوف ستنعكس على العادات الاجتماعية بدء من حفلات المطاعم واللباس وصولاً إلى مخاوف التحرّك والتنقل مع ساعات الليل الأولى". من جهتها، تؤكد داليا، مزيّنة شعر نسائية في مدينة حلب أنه "على عكس السنوات الماضية، فإنّ حجوزات النساء ليوم عيد الميلاد تكاد تكون معدومة، الناس في حالة ترقّب وانتظار، الواضح أنّ هذا العيد لن يكون كسابقاته".مطران دمشق: عدنا لتزيين كنائسنابذل قادة "هيئة تحرير الشام" جهودًا للنأي بأنفسهم عن خلفيتهم الإسلامية، وأجروا حوارًا مع قادة مسيحيين محليين، معربين عن رغبتهم في الوحدة والأمن لجميع السوريين. وشملت هذه الوعود حماية الكنائس والمدارس الدينية. لكنّ الشكوك مستمرة، خصوصًا بالنظر إلى ارتباط "هيئة تحرير الشام" في الماضي بجماعات أكثر تطرفًا مثل "القاعدة" و"داعش". في حديثه إلى "المشهد"، يقول المطران جورج أسادوريان، مطران الأرمن الكاثوليك في دمشق: "يوم 15 ديسمبر، قررت الكنائس الدمشقية إلغاء احتفالات الميلاد ورأس السنة والزينة الخاصة بها، والاكتفاء بالصلوات فقط نتيجة للأوضاع المتوترة التي سادت تلك الفترة".وأضاف "لكن بعد عودة أجواء الارتياح أخذنا قرارًا بالعودة إلى ممارسة طقوس السنوات الماضية، من تعليق الزينة والأضواء على جدار الكنيسة والمطرانية، ووضع مغارة يسوع المسيح وشجرة الميلاد في الخارج، إضافة إلى الاحتفال ببابا نويل". ويؤكد المطران أسادوريان "الهدف هو الفرح بعيد الميلاد وإسعاد أولادنا وشبابنا، فلدينا تقريبًا 150 شابًا وصبية في الفرق الكشفية وهؤلاء يعملون على تنظيم هذه الأمور". من جهته، يقول الناشط السوريّ من أبناء وادي النصارى، سامر صليبي، في حديثه إلى "المشهد": "الميليشيات التي تسيطر الآن هي في الغالب جماعات إسلامية متطرفة بانتماءات وإيديولوجيات وولاءات مختلفة، ولا يوجد ضمان بأنها ستظل موحدة". ويضيف الشاب المقيم في هولندا: "هناك مخاوف كبيرة جدًا لدى المسيحيين في سوريا. بعض أصحاب المتاجر المسيحيين يتجنبون بيع الكحول، الذي يرفضه الإسلاميون، كنهج حذر في إدارة أعمالهم، وأعرف الكثيرين الذين قاموا بإزالة الرموز المسيحية من محالهم خوفًا من التعرّض لهجمات". ويؤكد صليبي على أنّ "احتفال المسيحيين بأعياد الميلاد ورأس السنة لا يلغي الشعور بالخوف الذي يصاحبهم كل دقيقة".مخاوف المسيحيين تتصاعد في 15 ديسمبر 2024، احتفل المسيحيون في جميع أنحاء سوريا بأول قداس أحادي منذ سقوط الأسد، كما أعيد افتتاح المدارس بعد استبدال الأعلام وإلغاء ترديد شعار حزب البعث الحاكم في صباح كل يوم، بحسب ما تقوله مديرة مدرسة خاصة تتبع لأحد الطوائف المسيحية في العاصمة السورية دمشق. تقول المديرة الخمسينية، التي تشترط عدم الكشف عن اسمها خلال حديثها مع "المشهد": "لا يزال طلّابنا يتلون الصلاة الصباحية قد الصعود إلى صفوفهم، ونحاول طمأنة أطفالنا وأسرهم والحث على العودة إلى الحياة الطبيعية". وأضافت "هناك قلق وخوف كبيرين وهذا مفهوم، لكن يجب ألا تسيطر هذه الحالة على تفكيرنا وحياتنا اليومية". بالأمس، أكّد "المرصد الآشوري لحقوق الإنسان" نقلًا عن مراقبيه في مدينة حماة السورية، "وقوع اعتداءات متكررة على الأوقاف المسيحية في المدينة، كان آخرها الاعتداء على مطرانية حماة للروم الأرثوذكس صباح الأربعاء 18 ديسمبر 2024، وتخريب المقابر المسيحية في بحر الأسبوع الفائت".وقال المرصد إنّ "هذه الاعتداءات المتكررة والمستنكرة، والتي يقوم بها مجهولون، تُشكل انتهاكًا صارخاً للحقوق الأساسية للمواطنين المسيحيين، كما أنها تساهم في إشاعة جو من الخوف والقلق في صفوف المجتمع المسيحيّ في المنطقة". وطالب المرصد "القائمين على السلطة اليوم في سوريا بضرورة التحقيق الفوري والجدي في هذه الاعتداءات، وكشف هوية الجناة وتقديمهم للعدالة. والعمل الفوريّ على اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان حماية الممتلكات والمقدسات المسيحية، وضمان أمن وسلامة المواطنين بشكل عام وخصوصًا في هذه الأيام التي يتحضر فيها الناس للاحتفال بعيدي الميلاد ورأس السنة". يؤكد العديد من المسيحيين في سوريا الذين تواصلت معهم منصّة "المشهد" عن مخاوفهم من التهديد الوجوديّ والفوضى السياسية التي أعقبت انهيار نظام الأسد، حيث شاهدت هذه المجتمعات على مدار الـ13 عامًا الماضية، المسحلين وهم يحرقون ويدنسون كنائسهم القديمة، ويقتلون أساقفة وكهنة محبوبين، ويستعبدون النساء، ويختطفون قرى بأكملها في وادي الخابور، بدوافع تستند إلى الكراهية الدينية المتطرفة سواء من قبل "القاعدة" أو "داعش".تواجه القيادة الجديدة في سوريا ضغوطًا لاحترام حقوق الأقليات والنساء، وتصر الجهات الدولية على كون انهيار حكومة الأسد فرصة للتحول في سوريا، رغم التحديات المعقدة التي تتطلب معالجة دقيقة، وستلعب أصوات الأمل من مواطنيها والدعوات الدولية للدعم أدوارًا حاسمة في تشكيل فصل جديد لسوريا. (المهد - دمشق)