لم ينسَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب كلّ الملفات الشائكة التي أثارت امتعاضه خلال فترة رئاسته الأولى، وكأنّه كدّس ملفّات جمّة مع عناوين عريضة لكلّ أهدافه، لتكون على رأس أولوياته فور عودته إلى البيت الأبيض. وها هو سيّد القصر منذ نحو أسبوعين، يُكشّر عن أنيابه من جديد متبنّيا لهجة التهديد هذه المرّة، بعد رفض الدّنمارك عرضه عام 2018 لشراء جزيرة غرينلاند، وكان ردّه حازماً حينها، في إلغاء زيارته للمملكة الإسكندنافيّة، متجاهلاً العلاقات الدبلوماسيّة التي تجمع البلدين، وهذا ما يحوّل المشهديّة إلى ساحة معركة قد تتفاقم وتتحوّل إلى مواجهة حقيقيّة بين أميركا ودول الإتّحاد الأوروبيفعلى الرغم من أن غرينلاند هي من الأقاليم ذات العضوية الخاصة في الاتحاد الأوروبي لأنها إقليم تابع للدنمارك في الخارج، فإن أوروبا وأميركا لديهما مصالح هناك، منها موادها الخام وموقعها الإستراتيجي الذي سيتحوّل إلى ممرّ حيوي في ظل التغيرات المناخية المتسارعة.في إطار التحركات المرافقة لهذه المسألة، أكد المستشار الألماني أولاف شولتس، عقب لقائه رئيسة وزراء الدنمارك ميته فريدريكسين في برلين أنه ينبغي عدم تغيير الحدود "بالقوّة"، في إحالة إلى تصريحات ترامب حول نيّة بلده ضمّ غرينلاند.كذلك، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إثر لقاء مع فريدريكسن، ضرورة أن تدافع أوروبا عن "مصالحها الخاصة" مع الحفاظ على "الروابط بين ضفتي الأطلسي".من مغامرات الفايكينغ إلى مطامع ترامبوقال الباحث في العلاقات الدولية والأستاذ في جامعة فرساي الدكتور طارق وهبي في حديث لمنصّة "المشهد" إنّ "جزيرة غرينلاند لطالما كانت المحطة الطبيعية في الرحلات من أوروبا باتجاه القارة الأميركية الشمالية، وهذا منذ أن بدأ الفايكينغ مغامراتهم البحرية، وها هو الرئيس ترامب عندما كان مرشحاً وحتى في ولايته الاولى يقدم عرضا لمملكة الدنمارك لشراء الجزيرة".ورأى وهبه أن "سبب اهتمام الولايات المتحدة بتملك الجزيرة هو أنها تملك هناك قاعدة عسكرية تعتبر الثانية بحجمها بعد قاعدة رامشتاين في ألمانيا، وهي تعتبر محطّة مهمّة لعبور المحيط الأطلسي وحتّى للتدريب المُشترك في حلف الناتو. لكن امتلاكها يُنشئ نوعاً جديداً من الاستعمار ويُدخل أميركا في تعقيدات السياسات الأوروبية، خصوصاً في أمن دول القارة العجوز، كما أن الجزيرة تعجّ بالمواد الأولية التي تسمح بالاستثمار وكسب المال وتأكيد أن الحلم الأميركي يمتد أيضاً إلى هذه الأرض الباردة".وأشار وهبة إلى أن شراء الجزيرة يتطلب أمرين على الأقل: أولاً موافقة المملكة الدنماركية وإجراء استفتاء شعبي في داخل الجزيرة للمقيمين حول قبولهم لبيع الجزيرة. هذا الموضوع يدخل في إطار سيادة مملكة الدنمارك وليس لأي مكون آخر أوروبي أن يتدخل بما تقرره كوبنهاغن وفق قوانين الاتحاد الأوروبي.الموضوع الثاني هو الأمن الأطلسي عبر حلف الناتو ودور أميركا في حماية أوروبا بالمظلة الأطلسية والنووية. وقال وهبة "المشهد السياسي في حال تمت عملية البيع سيضع أوروبا أمام أمر واقع واضح وهو أن أي دولة أوروبية قد تخضع للابتزاز الأميركي كما يحصل الآن مع الدنمارك".وأضاف: "الناتو سيدفع فاتورة التوتر عبر تجميد عضوية بعض الدول والطلب من الولايات المتحدة أن تفصح عما تريد القيام به في أوروبا. لكن حلف الناتو رغم كل الفوارق بين دوله يظل حاجة ملحة أمام المارد الروسي الذي يملك القوة الصاروخية الأقوى نووياً".وتابع "ويمكن القول إن ترامب يصر على استعادة أميركا لدورها الكبير الذي لا يقهر، وفي المقابل لا تستطيع أوروبا إلا المماطلة حتى نهاية عهده على أمل تنجية غرينلاند من مطامحه وإبقائها تحت التاج الدنماركي".مواجهة روسيابدوره، لفت الكاتب الصحفي والمحلّل في الشؤون الدولية أنطوان الحاج، إلى الأهمية الإستراتيجية الجيوسياسية والجيو اقتصادية للجزيرة التي تبلغ مساحتها مليونين و166 ألف كيلومتر مربّع لا يعني فيها أكثر من 60 ألف نسمة.وأضاف الحاج في حديثه مع "المشهد": "فوقوع غرينلاند في شمال المحيط الأطلسي شمال غرب أوروبا وشمال شرق الولايات المتحدة كان من الممكن أن يكون نعمة، غير أنه مرشح لأن يكون نقمة. فالاحترار المناخي يؤدي بوتيرة متسارع إلى ذوبان لا رجعة فيه لكتل ضخمة من الجليد الرابض في المحيط المتجمّد الشمالي، وهذا سيؤدي إلى فتح ممرات بحرية كانت عصيّة على كاسحات الجليد وطبعاً السفن، لتنشأ بالتالي طرق بحرية تجارية جديدة ستغيّر مشهد التبادل التجاري في العالم. لذلك دأبت الدول المعنية بالقطب الشمالي، لا سيما روسيا والولايات المتحدة، إلى تعزيز وجودها العسكري فيه بغية التحكم في الملاحة طرق التجارة".وتابع "هنا يأتي دور غرينلاند. فقطعة اليابسة الكبيرة هذه تشكل المدخل الجنوبي الطبيعي لتلك المنطقة القصيّة من العالم التي لم يكن يذكرها الإعلام إلا لتصوير الجليد وحيوانات الفقمة وطيور البطريق وربما بعض الدببة القطبية، وإذا بها تصير محور صراع ساخن في منطقة باردة من كل النواحي. ومن هذا المنظور يمكن فهم موقف دونالد ترامب الذي لا يتردد في المجاهرة بطموحاته منطلقاً مما يعتبره حق بلاده في قيادة العالم وبالتالي فرض إرادتها حيث يقتضي الأمر. وستأخذ قضية غرينلاند طابع العجلة لأن الرجل لا يملك إلا أربع سنوات لتحقيق كل ما يريده".ممّا لا شكّ فيه، أنّ الدنمارك لن تقف مكتوفة الأيدي حيال مطامع الرئيس الأميركي، فهي المسؤولة عن الجزيرة ومُطالبة بالدّفاع عنها، فهل ستتصدّى سياسيّاً وعسكريّاً لأيّ محاولة للإستيلاء عليها بالقوّة؟ وهل هي قادرة على إنفاق المليارات لتعزيز وجودها العسكريّ في الجزيرة كما تعهّدت رئيسة الوزراء؟ وهل ستحترم الولايات المتحدة، بصفتها عضوا في الأمم المتحدة، حرمة الحدود كما هو مدرج في ميثاق المنظمة الأممية التي تستضيف نيويورك مقرها؟(المشهد)